«مأساة العرب»: ذلك هو العنوان الذي صدرت به مجلة «الإيكونوميست» البريطانية في الخامس من يوليو/ تموز الماضي. قد يكون هذا التاريخ قديماً نوعاً ما، لكنّ وطأة العنوان متجدّدة؛ فقد تضمّن ذلك العدد تقريراً عن الحالة العربيّة وما وصلت إليه بعد موجة الثورة المضادّة للرّبيع العربيّ التي انقضّت على أحلام الناس البسطاء.
«مأساة العرب» عنوان لا يزال رجع صداه يؤزّني أزّاً؛ حيث ذكَّر التقرير القارئ الغربيّ، وكذلك العربيّ ممّن نسي تاريخه، بأنّ عواصم البلدان العربية على غرار بغداد ودمشق والقاهرة كانت يوماً ما «منارات العلم والمعرفة والتقدم في العالم»، وأضاف التقرير أنّ «الإسلام اقترن بالإبداع والتسامح وحرية الاعتقاد والتجارة، ولكنّ ذلك كله انقلب رأساًَ على عقب الآن، بحيث ساءت سمعة عالم العرب وعواصمه».
ومن الملاحظات المهمّة التي سجّلها التقرير أنّ «صوت التطرّف عال ومسموع في العالم العربي، لكن صوت الاعتدال خافت في حين أن المجتمع المدنيّ هشّ ولا حضور يذكر له».
وأيّاً كان مدى اقتناعك بهذه الحقيقة، فإنّه قد بات من الضرورة بمكان أن تنهض وسائل الإعلام الوطنية ومنابر المجتمع المدني الثقافية بدور في إعلاء صوت الاعتدال ونشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر؛ ذلك أن تغوّل الإرهاب في بعض البلاد العربيّة يكمن في رفض عناصره الحوار مع الآخر المختلف عنه فكرياً ودينيّاً وسياسيّاً.
ما فتئت البلاد العربية، من مشرقها إلى مغربها، تقدّم إلى العالم مواقف لشخصيّات ذات فكر معتدل متحرّر متنوّر، يضاهي أفكار المنظمات التي تتشدّق بحقوق الإنسان ونسمع من أقوالها جعجعة ولا نرى طحيناً، بل نرى عالماً مطحوناً بغول الإرهاب الدولي (الكيان الصهيوني مثلاً) وإرهاب التطرف الدينيّ («داعش» وأخواتها من جميع المذاهب مثلاً آخر). وسأسعى جهدي إلى التعريف بهذه الشخصيات العلمية الوطنيّة وبأفكارهم ومواقفهم خصوصاً أنّ الإعلام وللأسف يغيّبهم عن قصد أو دون قصد.
ويحضرني في هذا المقام من بلاد المغرب العربي التي ترمى اليوم بتصدير العناصر الإرهابية، شخصية الشيخ العلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور (1879/ 1973) الذي خلّدت ذكرَه الشهامةُ والشجاعةُ والقوةُ والحكمة والمعرفة، وقد ذاع صيته في الشرق والغرب خصوصاً عبر آثاره المتميزة وكتاباته الفريدة، وأخصّ بالذكر منها «التحرير والتنوير»، وهو تفسير للقرآن الكريم، و»مقاصد الشريعة الإسلامية» و»أصول التقدم في الإسلام»، وكتابه الرائع «أليس الصبح بقريب». وقد تعهّد الموروث الدينيّ الإسلامّي بالتجديد وتطوير العديد من أبوابه ليناسب العصر الحديث، فكان شيخاً علاّمةً للإسلام وشيخاً لجامع الزيتونة المعمور.
ولم يكن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أحد أعلام هذا الجامع فقط، بل كان بحق في مطلع القرن العشرين من عظمائه المجدّدين، فقد انبرى طيلة حياته المديدة (أكثر من 90 عاماً) يجاهد في طلب العلم، وفي كسر وتحطيم أطواق الجمود والتقليد التي قيّدت العقل المسلم وصرفته عن التفاعل مع القرآن الكريم وربطه بالحياة المعاصرة.
وبعد أن تعالت اليوم أبواق الدعاية للإرهاب من خلال المواقع الالكترونية والقنوات الفضائية، صار التكفير لسان العامة والخاصة، وصار كلّ من هبّ ودبّ من هؤلاء المتطرفين يكفّر النّاس، بل ويطبّق ما يراه هو من أحكام الشريعة السمحاء على هؤلاء المختلفين معهم أو الأسرى أو من يقع بين أيديهم من نساء ورجال وأطفال.
ولقد أبدع شيخنا حين سئل عن طوائف المسلمين وتكفيرهم فقال في كتابه «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام»: «وفيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة من الاعتقادات فالمسلم مخيّرٌ في اعتقاد ما شاء منه إلا أنّه في مراتب الصواب والخطأ. فللمسلم أن يكون سنياً سلفياً، أو أشعرياً أو ماتريدياً، وأن يكون معتزلياً أو خارجياً أو زيدياً أو إمامياً. وقواعد العلوم وصحة المناظرة تميّز ما في هذه النحل من مقادير الصواب والخطأ، أو الحق والباطل. ولا نكفر أحداً من أهل القبلة» (ص172).
لله درّك يا شيخ الإسلام! هل من قارئ أو مستمع؟ هل من متعمّق في فكرك وناشر لآرائك؟ مِنْ منبع الإسلام اغتذيتَ فكنت مثالاً للاعتدال ورجاحة الرأي وترك الغلوّ مع تعمّقك في العلوم الشرعية. ولم يهجر ناصية العلوم الغربية فقد كان يتقن اللغة الفرنسية مطلعاً على ما أنتجته الثقافة الغربية.
لقد كان فقيهاً مجدّداً رافضاً ما يردده بعض المتفيقهين من أنّ باب الاجتهاد قد أغلق، بل كان يعتقد أنّ اتكال المسلمين على هذه النظرة المتكلسة القاصرة ستعطل العقل وتصيب المسلمين بالتكاسل.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4609 - الإثنين 20 أبريل 2015م الموافق 01 رجب 1436هـ
أين بغداد والقاهرة ودمشق وطرابلس الغرب وصنعاء
كَّر التقرير القارئ الغربيّ، وكذلك العربيّ ممّن نسي تاريخه، بأنّ عواصم البلدان العربية على غرار بغداد ودمشق والقاهرة كانت يوماً ما «منارات العلم والمعرفة والتقدم في العالم»، وأضاف التقرير أنّ «الإسلام اقترن بالإبداع والتسامح وحرية الاعتقاد والتجارة، ولكنّ ذلك كله انقلب رأساًَ على عقب الآن، بحيث ساءت سمعة عالم العرب وعواصمه».
أعلام في التسامح والسّلام... الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
مقال ممتاز مشكور استاد
هذا الذي منه نخاف
«صوت التطرّف عال ومسموع في العالم العربي، لكن صوت الاعتدال خافت في حين أن المجتمع المدنيّ هشّ ولا حضور يذكر له».
إلى زائر 1 | يؤزّ أزّا !!!
تؤزهم أزا أي : تزعجهم إزعاجا .
والأز : الهز والاستفزاز الباطني ، مأخوذ من أزيز القدر إذا اشتد غليانها (التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور)
يؤزّ أزّا !!!
قال تعالى: "إ نَّا أرْسَلْنا الشَياطينَ على الكافِرينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً " ؟