العدد 4609 - الإثنين 20 أبريل 2015م الموافق 01 رجب 1436هـ

أول دار للرعاية خصصت لها موازنة 400 روبية العام 1930

«تاريخ الطب النفسي في البحرين» للحدَّاد والعوفي...

وحدة الإقامة القصيرة في مطلع الستينات
وحدة الإقامة القصيرة في مطلع الستينات

يأتي كتاب الأستاذ المشارك، ورئيس قسم الطب النفسي في جامعة الخليج العربي، البروفيسور محمد خليل الحدَّاد، واستشاري الطب النفسي والطب النفسي لكبار السن بوزارة الصحة، عادل راشد العوفي «تاريخ الطب النفسي في البحرين 1932 - 2000»، ليسدَّ نقصاً كبيراً في التأريخ للخدمات عموماً، والخدمات الصحية خصوصاً، وضمن مجال وتخصُّص لم تعرفه المنطقة؛ عدا افتقارها إلى الخدمات الصحية الأولية وما يدخل في تفريعاتها أساساً.

الكتاب يأخذ القارئ في رحلة تبدأ من نهاية القرن التاسع عشر، إلى مطلع القرن العشرين، وصولاً إلى تسعينات القرن الماضي، مسلِّطاً الضوء على التطوُّرات التي حدثت لمستشفى الطب النفسي مُذ كان داراً للرعاية.

يَرِدُ في الكتاب أن المستشار تشارلز بلغريف، أوصى بإيجاد دار لرعاية المرضى النفسيين، ومع حلول العام 1930، خصَّصت البلدية موازنة قدرها 400 روبية من أجل ذلك الهدف، وبحسب المؤلفيْن، فإن حجم المبلغ يُفهم منه أنه كان مُخصَّصاً لدفع إيجار المبنى الذي يتسع لأربعة عشر مريضاً من الجنسين، وكذلك لتزويد المبنى بالتموين اللازم، ودفع راتب اثنين من العاملين على رعاية المرضى، وهما من غير المُؤهَّليْن في هذا المجال.

قبل أن يتم بناء دار الرعاية، استأجرت البلدية داراً صغيرة في المنامة جنوبي فريق الحمَّام. والتقى المؤلفان بأحد أفراد العائلة التي تم استئجار الدار منها، وهو الحاج علي أحمد ضيف، إذا أشار إلى أن الدار كانت تحتوي على ثلاث غرف، وبداخلها بئر للماء، وفي ذلك الوقت كان إيجارها خمس روبيات شهرياً.

لم يحل العام 1937، حتى تم نقل المرضى من الدار القديمة إلى موقع قرب منطقة القفول، وأطلق عليه اسم مستشفى المجانين، وكان بعض العاملين في البلدية هم من يتولى الإشراف على المرضى؛ فيما وجبات الطعام كان تُرسل لهم من مطعم الشيخ حسن البستكي في المنامة.

ومع تطوِّر الهيكل الإداري في الدولة، تم انتقال إدارة المستشفى من البلدية إلى الدائرة الطبية، وذلك ما يشير إليه تقرير رئيس الدائرة الطبية في العام 1948، سْنو، إذ أعيد تأثيث المبنى، وتم تعيين ممرض هندي متخصص في الأمراض النفسية، وتمت زيادة عدد الأسرَّة والملاءات، وتم إدماج المرضى في بيئة المستشفى من المشاركة في الأعمال الزراعية، إلى تربية الدواجن.

وضمن تقرير سْنو السنوي لحكومة البحرين في العام 1959، أشار إلى بعض التغيرات التي طرأت على المستشفى؛ إذ «كان يقوم في حديقة في طرف هذه المنطقة الطبية مصحّ للمجاذيب، بدائي في وسائله وذو طراز قديم في بنائه، وتسلَّمت الدائرة هذا المصحّ بعد الحرب، وأعيد بناؤه وأضيفت إليه أقسام على ثلاث مراحل، ليصبح مستشفى للأمراض العقلية (...)».

ومع حلول ستينات القرن الماضي، وتحديداً في العام 1963، شهد المستشفى توسُّعاً في المباني، ما مكَّنه من الوصول بعدد الأسرَّة فيه إلى 50 سريراً، لتزداد إلى 120. كما تم إنشاء أول عيادة خارجية أشرف عليها طبيب بريطاني. ولم يكن عدد المرضى الداخليين يذكر؛ إذ لم يتجاوز أصابع اليد، وشاع العلاج الكهربائي من دون مخدّر، كما استعمل علاج «الغيبوبة بالأنسولين» كمرادف للعلاج الكهربائي «وكان يتسبَّب في إصابة المرضى بغيبوبة وتشنُّجات عضلية».

الإقامة الزرائب!

لتلك الفئة من المرضى ظروف غاية في القسوة والصعوبة مرَّت بها، بلغت حدَّ التعامل معها دون مستوى الحيوانات في بعض الحالات.

ويرجع المؤلفان إلى بحث الكاتب خالد البسام الذي استند فيه إلى مكتب الوثائق البريطانية في العاصمة (لندن)، في تبيان الأوضاع التي كان عليها «المجانين»؛ إذ يشير إلى أنهم «في أوائل القرن العشرين في البحرين، كانوا يعيشون أوضاعاً بائسة غير إنسانية على الإطلاق؛ فعلاوة على الاحتقار الاجتماعي لهم، كانوا يُوضعون في زرائب حيوانات حقيقية لا تنقصها سوى أكوام البرسيم، وبجانب بقائهم في هذه الزرائب مقيِّدين بالحبال المتينة، كانوا يعانون أيضاً من تدنِّي وضعهم الصحي والغذائي داخل هذه الزرائب، ومن انتشار الكثير من الأمراض والأوبئة فيما بينهم».

ذاكرة... العلاج البدائي بالزَّار

بحسب الكتاب، لم تعرف البحرين مأوى للمرضى النفسيين قبل ثلاثينات القرن الماضي؛ وكانت العائلات تلجأ في رعاية أحد أفرادها ممن يعانون من اضطراب نفسي، إلى إقامة جلسات الزَّار وإقامة الموالد وقراءة القرآن الكريم «وكتابة سور من القرآن في صحن ومحْو الكتابة بماء الورد والزعفران وسقيها للمريض؛ كما استُخدم العلاج بالكيِّ باستخدام قضيب ساخن يُكْوَى به المريض في منطقة مؤخرة الرأس أو جانبي الصدغ». اتخذت العلاجات والتعامل مع المرضى صوراً مؤذية في كثير من الأحيان عن طريق عزل المرضى وحبسهم في البيت؛ وفي ظل حالات كتلك كانت سوق المشعوذين رائجة؛ إذ تتم الاستعانة بهم لإخراج الأرواح الشريرة والجن من المرضى؛ بحسب اعتقاد تلك العائلات.

وضمن التوثيق المباشر وتسجيل الشهادات؛ يستند المُؤلفان إلى ما ورد في شهادة أحد المعمّرين في البحرين، تم الالتقاء به، بالقول، إن الضرب «كان إحدى الوسائل التي استُعملت لاستخراج الجن» ودخلت في إجراء العلاج ومتطلباته مواد لازمة لإبعاد الجن، من بينها «صمغ الريح» ومادة النيل (مستخرج نباتي ذو لون أزرق؛ بنفسجي داكن)، تُمسح بها أجسام المرضى.

وتعدَّدت الاعتقادات التي ظلت شائعة وترسَّخت في مجتمع البحرين في تلك الفترة، تلك المتعلقة بأسباب الإصابة بالأمراض النفسية فمنها «تعرُّض الأطفال للضرب والزجر، أو السقوط قرب دورات المياه؛ وخاصة في أوقات المساء»، ومن بين الاعتقادات؛ أو الوسائل التي لجأت إليها بعض العائلات، لمعرفة أسباب الإصابة بالمرض النفسي، «أخذ المريض لقراءة الطالع»، ومن تلك العائلات من يترك المرضى؛ بعد تبيُّن العجز في شفائهم، يهيمون في الشوارع؛ ما يعرِّضهم إلى السخرية والأذى من قبل المارَّة؛ وخاصة الأطفال.

إحصاءات حديثة نسبياً

ويُشير المؤلفان، الحدَّاد والعوفي إلى أن الموازنة ارتفعت مع حلول العام 1937 لتصل إلى 600 روبية، لتشهد البحرين في العام نفسه بناء دار رعاية جديدة «في الموقع الحالي لمستشفى الطب النفسي». وبمجيء العام 1948 «بلغت الموازنة 5000 روبية».

وتبيِّن الإحصاءات الحديثة نسبياً التي أوْردَها الكتاب، أن عدد مرضى الطب النفسي، ارتفع من 7121 مريضاً في العام 1980، إلى 19694 مريضاً في العام 1993، وبمعدَّل نمو سنوي قدره 2.8 في المئة؛ ما استدعى رفع عدد الأطباء ليصل في ذلك العام من 14 طبيباً إلى 22؛ فيما ارتفع عدد الأسرَّة من 180 إلى 201 سرير.

تناول الكتاب في ثناياه مراحل التطور والتوسعات التي حدثت للمستشفى في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وكلها تشير إلى القفزات الهائلة التي تحققت، والاهتمام الواضح بتلك الفئة من المرضى.

أول اللبنات

ربما لم نذهب في الاستعراض بحسب ترتيب موضوعات الكتاب، كي يتركَّز مطلع الكتابة على بدايات تأسيس دار لرعاية المرضى النفسيين؛ لكن من الوجب التنويه هنا إلى أن الكتاب لم يعتمد فقط على المادة التاريخية الخاصة بتطور الطب النفسي، تلك التي تركها سابقون في هذا الحقل، وبحسب إشارة المقدمة التي كتبها الحدَّاد، اعتمدت على «مقابلة الناس والاستماع لهم»، وفي موضع آخر «إن توثيق الرواية من خلال المقابلات الشخصية لبعض من عاصروا تلك المرحلة قد تطلَّب تأكيد المعلومة نفسها من أكثر من مصدر واحد».

بقي أن نشير إلى أن الكتاب بدأ باستعراض جوانب من الخدمات الصحية في ملامحها الأولى، بدءاً من قدوم بعثة تبشيرية من الولايات المتحدة في العام 1892، واتخاذ بيت مُؤجَّر في منطقة المنامة ليكون مكاناً لعلاج المرضى، مروراً بالعام 1902، حين افتتح مستشفى صغير تابع إلى الإرسالية الأميركية، وكان بذلك أول مستشفى تعرفه منطقة الخليج العربي.

ويعود الاستعراض إلى وباء الكوليرا الذي اجتاح البحرين في العام 1892، والذي سقط من جرَّائه أكثر من 5000 شخص يشكِّلون ما نسبته 10 في المئة من مجموع السكَّان وقتها، والذي لم يتجاوز 50 ألف نسمة، وطبيعة الأمراض السائدة في تلك الفترة، كالتدرُّن الرئوي والتقرُّحات والروماتيزم والملاريا.

كما يتناول الاستعراض في مفتتح الكتاب، بداية إجراء العمليات الجراحية في البحرين، بعد وصول توماس شارون وزوجته في شهر سبتمبر/ أيلول 1900، مسلِّطاً الضوء على أثر التقرير الذي كتبته شارون توماس، بالإشارة إلى حاجة البلاد إلى مستشفى، وحاجة المرضى إلى المكوث في المستشفى بعد إجراء العمليات، وهو ما لم يتوافر في ذلك الوقت، وعلى إثر التقرير يتلقى مستشفى الإرسالية تبرعاً سخياً من الفريد ماسون يقدَّر بـ 6000 دولار، وتخصيص حاكم البحرين وقتها سمو الشيخ عيسى بن علي أرضاً يقام عليها المستشفى، ومن ثم تشييده واكتماله في العام 1902.

ويُكمل التمهيد في الكتاب بتناول جانب من تاريخ قيام مستشفى فيكتوريا التذكاري في منطقة رأس رمان، والذي بُني بتوجيه من الحاكم البريطاني في الهند في العام 1900، وكان يحوي 12 سريراً، وافتتح في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1906، ومن بعده مستشفى العوالي في العام 1937، ومستشفى البحرين الدولي في أكتوبر/ تشرين الثاني 1978.

بداية الخدمات الحكومية

كانت بداية الخدمات الصحية الحكومية في العام 1897، عندما شرعت الحكومة في إنشاء محجر صحي بسبب الأوبئة التي تعرضت لها البلاد، والتي كان مصدر معظمها من الهند، إلا أن بناء المحجر لم يتم إلا في العام 1899 في منطقة القضيبية، مروراً بتدشين العيادات في العام 1925، في المحرق، وعيادة المنامة في العام 1930، وعيادتي سوق الخميس في منطقة البلاد القديم والأمراض المعدية في العام 1936؛ علاوة على العيادة المتنقلة التي تجوب القرى لتقدم التحاليل وتحضير الأدوية والكشف على المرضى؛ لتأتي مرحلة بناء مستشفى النعيم وكان في بدايته عبارة عن عيادة صغيرة في العام 1930، ليأتي العام 1940 - 1942 بتدشينه وتقديمه الخدمات للجنسين بعد أن كان مقتصراً على النساء فقط، والمراحل التي مر بها وصولاً إلى إعادة بنائه في العام 1987، ومن قبله بناء مركز السلمانية الطبي في العام 1978.

مهمَّة تلك الكتابات التي تؤرِّخ لتدشين وقيام المؤسسات والهيئات والوزارات الخدمية. فترة التدشين والتأسيس لا تكون كأي الفترات التي تعرفها الأمم والدول في تاريخها. أعني بها الفترات التي يشيع فيها ضيقُ ذاتِ اليد، وشح الموارد، والجغرافيا المعزولة أو المنعزلة، بفعل بدائية كل شيء فيها. الأمراض والأوبئة التي تعمل عملها في تعميق تلك العزلة وجعلها أكثر ألماً ووجعاً.

عن تاريخ متقدِّم من بدء ملامح قيام الدولة الحديثة نتحدث. عن الفقر الذي كان ملمحاً من ملامح المكان والجغرافيا. عن الأمية التي تُعرف بها على الأطلس أيضاً. عن وصول تأثيرات الحروب إليها وباتت مهدَّدة بأكثر من المجاعة.

البحرين كانت رائدة في هذا المجال، وأولت الصحة والتعليم اهتماماً بالغاً مع مطلع القرن العشرين؛ حيث اتضحت ملامح ذلك الاهتمام بقيام المؤسسات التي كانت بطبيعة الإمكانات بدائية وبسيطة، وتفتقر إلى الخدمات المتكاملة، ولا تغطي المساحة الجغرافية للبلاد؛ غلا أن الإصرار على قيامها أخذ بها إلى الريادة من جهة، ووسَّع وعمَّق من خبراتها، وطريقة التعاطي مع المشكلات التي واجهتها في تلك الفترة الزمنية المتقدِّمة.

يظل كتاباً مهماً؛ ضمن مجموعة من الكتب التي تناولت تاريخ تأسيس وقيام وتدشين المؤسسات التي تعد حديثة نسبياً مقارنة بوضع دول الإقليم وتأخرها في معظم المجالات في تلك الفترة الزمنية، وما تبع قيامها من تدرُّج وأخذ بالنماذج الأكثر تقدماً في الدول التي سبقت في هذا المجال؛ على رغم شحّ الإمكانيات والموارد إلا أن ذلك لم يحل دون تنفيذها على الأرض؛ إيلاء لأهمية ومحورية العنصر البشري على هذه الأرض؛ والأخذ به إلى آفاق تحفظ له صحته وتعليمه وما يرتبط بهما.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
الدار التي استأجرتها البلدية العام 1922 لإيواء المرضى النفسيين
الدار التي استأجرتها البلدية العام 1922 لإيواء المرضى النفسيين

العدد 4609 - الإثنين 20 أبريل 2015م الموافق 01 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً