بشر لاهثون، مُتعجِّلون، يريدون اقتلاع بشر آخرين. يتوهَّمون أنهم بذلك يصنعون مدنيَّة. ربما ولكنها ستكون مدنية لاهثة متعجِّلة أيضاً، تريد الزحف على كل شيء. ليست الأرض وحدها. الإنسان نفسه مُستهدف من ذلك الزحف. الجبل هذه المرة تحديداً، هو جزء من الاستهداف. ماذا لو كانت المنطقة كلها بطبيعتها جبلية؟ الثروات هناك. لن يُنظر إلى البشر باعتبارهم قيمة المكان. هنالك من يفعل ذلك. وسط كل ذلك، ثمة من سيُواجِه ويدافع عن قيمة المكان: البشر.

«الحكمة السريَّة للأرض» الرواية الأولى للأميركي كريستوفر سكوتون، تُحيلنا إلى تفاصيل من كل ذلك.

أن تغضب لفقد وغياب من تحب؛ أياً كان: أخ، صديق، زوجة، وما يمكن أن تتفرَّع من ذلك الغياب قائمة المرتبطين بعاطفتك، وهو غياب في حدِّه النهائي: الموت، ذلك لا يمنحك حقَّ أن تُعيد النظر في هندسة وشكل العالم من حولك. أن تبدأ بحرْقِه، تدميره، وإدخاله في مرحلة من النهايات، ليكون منسجماً مع ما تظنه نهايتك بذلك الفقد والغياب.

سكوتون يبحث «تاريخ الحكمة على الأرض». يبحث تاريخ الحكمة عليها وكشفها، وإن بدتْ في مجالها السريِّ، فيما يمكن أن نستشفَّه من عنوان الرواية؛ ولكنها ليست كذلك. إنها في صغير التفاصيل وكبيرها المكشوفة أمام العالم؛ بالفعل وردِّ الفعل. محاولة العبث بتفاصيل الأرض. قمم... جبال يُراد تسويتها بالأرض... العبث بها؛ أو نهب ما تحويه. الأرض أيضاً لا تستوي من دون العالي فيها ومنها. أمراض تتسلَّل إلى أجساد بشر بفعل مناجم الفحم. الأورام تحديداً. عبث لا يتوقف. ابتزاز بشر كي يتركوا بيوتهم ومناطقهم. محاولة لتغيير ملامح الأرض باقتلاعهم منها. ثمَّة من يفعل ذلك اليوم، وفي كل مكان. ثمة من سيفعل ذلك غداً أيضاً. تلك النوعية من البشر لن يخلوَ منهم العالم.

في منطقة جبلية تمتد في البقاع الشرقية من أميركا الشمالية، وهي من أقدم الجبال في أميركا وأطولها، تدور أحداث رواية كريستوفر سكوتون.

ذلك وجه من وجوه الرواية. وجه آخر لخَّصه موقع «أمازون» بالقول: «جاءت هذه الرواية في الوقت المناسب. هي رواية مثيرة ومؤثرة للغاية، تتناول أعمال العنف في بلدة جنوبية صغيرة، تأخذنا التداعيات إلى حيث التغيُّر الذي يمرُّ به شاب، والأخذ به من حال قسوة الإنسان إلى الرحمة».

إنها رواية اللهاث للزحف على كل شيء... طغيان العنف وسيادة الرحمة في ما يبدو من نهايتها. هي رواية العنف ضد المكان والبشر؛ حيث الاقتلاع أحد شواهدها وصورها.

دانييل وودريل، تناول جوانب من الرواية في صحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 16 يناير/ كانون الثاني 2015، هنا جانب من التناول.

هنالك مدرسة فكرية تُؤمن بأن التناغم الرئيس الذي يمكن أن نعثر عليه يكمن في المألوف والمُعاين والمُعاش والمحسوس، في الكتب العظيمة والمؤثِّرة المعروفة، تلك التي تُقدِّم إيحاءاتها بسهولة أكثر، ومُحبَّبة في كلاسيكيتها بصورة غامرة. «الحكمة السرية للأرض»، هي الرواية الأولى لكريستوفر سكوتون، تأتي ضمن حفنة من الروايات المفضَّلة التي تستوطن الذهن والمخيَّلة، فهي مُوحية من نواحٍ عدَّة، من دون أن تكون مدينة بشكل عميق لأي كان (من حيث فكرتها وموضوعها ومعالجتها). ذلك يُمثِّل، على الأقل - جزئياً - حماساً كبيراً ولَّدته هذه الرواية وهي في طريقها إلى النشر.

الراوي (كيفن)، البالغ من العمر 14 عاماً، شخص ينظر إلى الوراء في صيف حاسم في ما يشبه الاستعادة عندما أصبح رجلاً، بعد الوفاة المأسوية لشقيقه الأصغر، وحزنه العميق عليه.

تأتي الأم التي تعاني الشلل إلى مدينة الأبالاش في مدغار بولاية كنتاكي بحثاً عن النقاهة؛ بالإقامة مع والدها.

بدأ كيفن إشعال الحرائق تعبيراً عن الغضب والشعور بالذنب على وفاة شقيقه. لحسن الحظ، يقيم صداقة مع صبي جبليٍّ قويٍّ اسمه بزي، الذي يطلعه على الطريقة التي يضع بها حدَّاً للعنة المخاطر التي تهدِّد المكان، كل ذلك تحت عنوان «تعوُّده» تلك الحال والممارسة التي تتعرَّض لها الغابة، ويقوم بتعريف كيفن بثقافة الآبالاش الغامضة.

يشار هنا إلى أن جبال الأبالاش (Appalachian Mountains) اسم عام يُطلق على عدد كبير من مجموعات جبليَّة تمتدُّ في البقاع الشرقية من أميركا الشمالية، وهي من أقدم الجبال في أميركا وأطولها، وتتعرَّض لعمليات النحت منذ تكوُّنها، وهي جبال مطْويِّة تبدأ عند وادي «سانت لورانس» بمقاطعة كيبيك بكندا، وتنحدر صوب الجنوب الغربي حتى السهول المحاذية لشواطئ خليج المكسيك في ولاية ألاباما، ومن هذه المجموعات، الجبال البيض والجبال الخضر، وجبال كاتسكيل، وجبال أليجني، والسلسلة الزرقاء، والجبال السود، وجبال غريت سموكي، وهضبة كمبرلاند.

الفظائع ضد الحيوانات والبشر

الطابع الأكثر تحبيباً ويبعث على الانشداد في الرواية هو «بوب»، الطبيب البيطري، من نوعية الأجداد الذين قد تتمنَّى أن تكون مثله: ذكيٌّ ومتعلم وحاضر طوال الوقت من أجل حفيده. يساعده كيفن في المناطق النائية من البلاد، ويشهدان معاً كل الأشياء الجيدة والفظيعة التي يرتكبها الناس ضد حيواناتهم وضد البشر القريبين لهم ومنهم.

ليس لدى منطقة مدغار الكثير من التنوُّع في الصناعة، ولكن لديها مناجم الفحم. السكَّان المحليُّون لديهم علاقة مُضطربة مع الألغام. إنهم في حاجة إلى الوظائف، ولكن إزالة الجبل، تظل واحدة من شواهد تلك الممارسة البشعة التي تظل مثل الندوب إلى الأبد، تلك التي تملأ الأرض بالسموم المسبِّبة للسرطان.

يُحاول بعض السكَّان وضع حدٍّ لتقليص مزيد من قمم التلال، ورفض بيع الأراضي؛ يرى آخرون طريقة للتعبير عن احتجاجهم على هذا الأمر بترك كتابات على الجدران، وبيع ما لديهم ومن ثمَّ الرحيل.

شركة التعدين، بقيادة مُتحجِّر القلب الصلف بوبا بويد، يسعى بطريقة ما - بمعنى ما أيضاً - إلى شراء «بوب»، وذلك ما يثير حنق كيفن. «كيف يمكن لهم أن يفكِّروا في تدمير هذا المكان؟. ذلك ما لم أستوعبه».

قال: «الرجال مثل بوبا بويد، يعتقدون أن الأرض تدين لهم بلقمة العيش» بوبس يفسر. «يُمكنهم ان ينالوا أي ثروة من الجبال، ومن ثم عليهم أن يرحلوا. أنا أشعر بالأسف حياله. حقاً أشعر بذلك. بالنسبة إلى شخص مثله لا يمكنه رؤية الجمال من خلال شلَّال، أو فهم أهمية التاريخ والمكان. إذا كانت لي أمنية واحدة تتعلَّق بك، كيفن، هي أنك لن تصبح واحداً من هؤلاء الرجال».

بول بيرس، أحد شخصيات الرواية، مدافع مناهض لعمليات الإزالة في البلدة «مثْليٌّ» يُدير صالوناً للتجميل في المنطقة، تعرَّض للضرب حتى الموت في زقاق وراء محله.

«بزي»، يعرف أكثر مما يتحدَّث به، لكن الولاءات المُعقدة والمتداخلة، تُجبره على الحفاظ على الأسرار بعيداً عن مفوَّض الشرطة. في نهاية المطاف، يعود أدراجه إلى منزل «بوبس»، بجوعه وكدَمَات لحقت به لا تفسير نعرفه عمَّن يقف وراءها. «بوبس» لا يسأل، ولكنه يدعو الفتى المُصاب لرحلة إلى بحيرة غلاستون. وصف سكوتون للارتفاع الممتدِّ لتلك الجبال، والتدنيس الذي يلحق بالأرض، مؤثر للغاية. (تدنيس بفعل أطماع الإنسان. نظره إلى ما يريد بتلك الشهوة المُدمِّرة. البشر في المكان ذاك كأنهم خارج نطاق الرؤية. وإذا تمَّت رؤيتهم، على أحدٍ ما أن يفعل شيئاً لاستثمار واستنزاف المكان، ولو أدَّى ذلك إلى أبعد من استنزاف البشر؛ بل وحتى نفيهم بوسائل شتى عن ذلك المكان)!