سؤال في البديهي من وجعِ وآهاتِ وجروحِ وغربةِ كثيرين. يسأل مطعون ممن لقَّنوه أن الذين في الجِوار هم من ذوي القربى، ولم يَرَ منهم إلا الكرْب والكمَد: ما الذي ستجنونه ويُعلي من شأنكم بكل هذا الإمعان في الفتْك والرفاهية معاً، حين يكون على حساب الناس، من دون أن ننسى الدماء التي تُهدر كما تهدر مياه لأناقة وسيلة مواصلات أحدهم؟
لن يكون لكم في النصيب إلا لياقة شفاهٍ وقلوب منكسرة لا تنفكُّ تلهج باللعنات عليكم؛ ولكم بعد ذلك في التفاصيل من الحياة خزي وعار ومهانة، ولا معنى لحياة بكل تلك القائمة من السقوط والانحدار وما بعد العدم.
نعرف أن الحياة لا تتسع للذين لا يلتفتون إلى حيِّزهم البسيط، سعياً إلى كل رحْب يطول البشر من حولهم. نعلم أن تأويل الطريقة التي يحيا بها إنسان بعيداً عن الوصاية والاحتواء، يحتاج إلى موهبة مُقنعة. مُقنعة بإثبات أن العبودية: حرية، والارتهان: أفق، والاستسلام: لياقة في الخيار، والانحناء: بحجم أفق لا نهاية له، والصمت إزاء كل ذلك: حكمة بالغة.
نعلم أن كلاماً كهذا لن يُحْدِث فارقاً بالنسبة إلى الذين يبحثون عمَّا يمكن بيْعه؛ ولو كان في النادر والشحيح من الشرف؛ إن تبقَّى أثر له؛ كي يكونوا في الصدارة من آلة الهدم والتسقيط والإلغاء. كي يكونوا في القاع الذي لا يدل على الأدنى مما يشير إلى إنسانية بات حتى الوحش يتشبَّث بها لرضا يتطلَّع إليه. رضا لا طمأنينة فيه لأنه برائحة الدم والوجع والآهات والجروح والغربات، والفقد أيضاً. الفقد الذي بات ممارسة ستصبح مع مرور الوقت شعاراً وطنياً للتخلُّص من الفائض البشري الذي لم يدخل في جهاز معلومات مكانٍ ما ضمن البشر. ربما ضمن الأبنية والشوارع والأراضي المُسوَّرة، والسواحل النادرة والمُصادرة بالأسوار. فائض بشري قرّره التمييز الفاقع؛ وحِراك وعي أصيل له ممارسته العاقلة والمُضادَّة. وعي متجذِّر وليس طارئاً مهما أوجف من خيل ورِكَاب.
أكثر البلدان بشاعةً تلك التي تحوِّل الجميل بسياساتها إلى ما يتجاوز البشاعة. وأخصب البلدان لنبت ما يهدّد الحياة، تلك التي تستحوذ ثلةٌ فيها على الحياة بكل تفاصيلها. وأكثر البلدان التي يمكن أن تتحوَّل إلى قنبلة موقوتة ومفتوحة على الدمار والخراب، تلك التي تميِّز على المذاهب والميول والأمزجة والهوايات والنوايا والهيئات والألوان والأسماء والسلالات، تلك التي تترك الحبْل على الغارب للفاشلين والقتلة والطائفيين والطارئين على المكان كي يقرِّروا ويتحكَّموا في مصير أهل الأرض. احذروا تلك القنابل الموقوتة لأنها من دون حاسَّة، ومن دون مؤشر يقودها إلى الاصطفاء بضمير. واحذروا الذين يقفون وراءها، فمن سنخها وطبيعتها جاءوا واتخذوا مواقعهم في ترتيب الكارثة، كلٌّ بحسب استعداده لرؤية الرماد والدمار.
نريد أن نكون فرِحين ولكن ليس على حساب الذين لم يعرفوا الفرح بكل ذلك الحصار في حيواتهم، وانشغالهم الدائم بتحضير ما تبقى مما يدل عليهم، والنفسيات في استلابها وهي تُحضَّر لمزيدٍ من الجنازات والفاتحات وتلقِّي العزاء بوفرة لم يعرفها الفرح في حيِّزهم المحاصر بالليل والاستجواب، والاختطاف من دفء الأسرَّة مع ساعات الفجر الأولى، من قبل مخلوقات لا تعرف المدى الذي يمنحه استيقاظ في تلك الأوقات ليكون المرء بين يدي ربه، لا بين يدي عسس وغرباء ووحوش وقتَلَة تنتهك طهر وبياض تلك اللحظات، بالرعب الذي تبثُّه، ولأنها آخر من يعرف ربَّ ذلك الوقت الأبيض.
في المعاني الواسعة، يضيق التقاط عسس الكلام لما تريد إيصاله. هل يفترض بهم أن يكونوا مراجع وآيات وعلامات للقدرة على التأويل؟ من يملك القوة لا يحتاج إلى تأويل خرابه. قوته تحسم ذلك. لكن إلى متى يمكن لذلك الإجراء أن يكون فاعلاً، وقادراً على إقناع الحياة بأن فهمها واحتواءها يختزله أولئك الطارئون على استقرار الحياة؟ لن يجدي نفعاً القول: بتْنا مُرتهنين لمؤسسات ومستشاري المزاج في درجاته السيئة المليئة بالحمْق. الحمْق الذي لن ينتج عنه طبعاً، فارق وفائض حكمة!
حقَّ للغائب أن يكون حاضراً بالروح التي يخشاها أولئك. لا غياب لروح لها في المجموع البشري حصَّة. ليست وحدها، ولا تنشد الرأس من كل ذلك. ستكتفي بما دون الأدنى مادام في ذلك رفعة وخلاص مخلوقات لها مِران صعب في عدم الانحناء والاستسلام والإذعان. هي التي تصنع المرحلة التي تليق بطاقتها في الدراية والمعرفة والشرف والمعنى الغائب والمُغيَّب!
نعلم أن للخيارات منحنياتها؛ لكن اختيار الجنون ليكون طريقة وخياراً في التعامل مع البشر والحجَر؛ تلمُّساً للإعفاء من المسئولية المترتبة على ما سيحدث، فيه الكثير من الإصرار على الذهاب إلى نهاية الشوط لممارسة المزيد من الخسْف وتعميم الكارثة وما يتمخَّض عنها من آلام ليس في وسع كل كائن بشري أن يتحمَّلها. الآلام التي لن تترك قلباً مُتفرِّغاً لمحبَّة الذين كانوا سببها ورعاتها والمموِّلين لها.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4604 - الأربعاء 15 أبريل 2015م الموافق 25 جمادى الآخرة 1436هـ
عجيب المقال
سلمت الأنامل