على أحد الشوارع الرئيسية لفتني إعلان تجاري يتحدث عن الرؤية وما تتطلبه من جرأة لكي تُحدث التحوّل الاستثنائي المأمول. لو لم تكن دعاية تجارية لظننت أنها دعاية سياسية بامتياز، فكم من رؤى محلية وعربية استبشرنا بها خيراً وانتظرنا عناقيد خيرها وقلنا إنها ستنقلنا إلى «يوتوبيا» الأوطان المستقرة الواعدة بالاستدامة والعدل، والرفاه والسعادة.
خلال العقد الماضي أنجزت أغلب الدول العربية ما قالت إنه مشاريع وخطط طموحة في التنمية المستقبلية والرؤى الاقتصادية الملائمة لكل منها. وقد تضمنت جميع تلك الرؤى أطراً زمنية محدّدة لبلوغها، وفي مرحلة الإعداد لهذه الرؤى جرى استقدام الخبراء الاستراتيجيين في التنمية البشرية والاقتصادية والتكنولوجية، وقامت بيوت الخبرة العالمية بإجراء الدراسات المستفيضة ووضع الخطط الخمسية والعشرية، وتم رصد المبالغ المالية الكبيرة من أجلها، والتعاطي معها بأساليب علمية واستطلاعات رأي تعتمد لغة الأرقام والحقائق والمعطيات الصحيحة. وكان لابد من وضع الأولويات والمحفّزات والتصور الزمني ضمن مؤشرات لقياس الأداء الاقتصادي عاماً بعد عام.
خلال ورش العمل والندوات التي صاحبت انطلاق الرؤى الاقتصادية العربية، طرقت آذاننا ولأول مرة، مصطلحات ونصائح وإرشادات جديدة لم نألفها قبلاً، «اخرجوا من صناديقكم القديمة»، «فكّروا خارج الأطر والتابوهات التقليدية»، «حلّقوا إلى الآفاق الرحبة»، «لتكن السماء حدودكم»، «لا تضعوا القيود على إبداعكم». وكان الموظفون والمسئولون الرسميون ورجال الأعمال وحتى صغار العمال في القطاع الخاص وفي شتى القطاعات... مذهولين ومتوجسين من نوع التغيير الذي ينتظرهم في المرحلة المقبلة.
قيل لهم: دون إحداث التغيير في طرق تفكيركم وفي طريقة أدائكم لأعمالكم وفي تحمل المسئوليات التي ستلقى على كاهلكم، وفي سن التشريعات والقوانين الجديدة التي سترافق الانطلاق إلى بدء ساعة الصفر... فإن الفشل مصيركم.
لذا كان لابد من المرور بمرحلة التدريب اللازم للتهيؤ وللمساعدة على التشارك في صنع القرار وفي تنفيذه، لرفع الإنتاجية الاقتصادية وللتوظيف الأمثل للثروات المتاحة من بشرية ومادية، وما يقتضيه ذلك من مساءلة ومحاسبة لأوجه إنفاق المال وكيفية توزيعه.
لقد كانت تلك الرؤى الاقتصادية جريئة بحق، وكان من شأنها لو نجحت أن تنقلنا من حال اقتصادي متردٍّ ذي صبغة استئثارية يحقّق الفائدة لفئة صغيرة من المجتمع، إلى حال استثنائي جديد يشمل خيره الجميع. قال أحدهم أثناء مناقشة ندوة أقيمت لمناقشة الرؤية «لقد كنا طوال الماضي نصوُب في الظلام» (SHOOTING IN THE DARK).
كان لدى بعض المحافظين أو الخائفين من خسارة مكتسباتهم الشكوك في إمكانية تحقيق هذه الرؤى، مع سعي خفي لوضع العصي في العجلة قبل دورانها، لكن المد الشعبي العام والمتفائل وقتئذٍ كان يؤازرها، أما رعاتها وخبراؤها فقالوا «إما هذا التوجه أو الخسائر والفشل الاقتصادي الحتمي».
بقي السؤال: هل يمكن الركون إلى إمكانية نجاح رؤى اقتصادية مختلفة وجديدة بمعزل عن السياسة؟ قد كان ذلك ومن البداية رهاناً خاطئاً، فإصلاح الاقتصاد لا يستقيم دون إصلاح السياسة، والعكس صحيح. لذا ما أن حلّ زلزال الربيع العربي غير المتوقع حتى وُضعت كل تلك الرؤى على الرف.
واحدةٌ من الأمور التي جرى تغافلها - ربما بقصد أو دون قصد - هي أن هذه الرؤى خلت من سيناريوهات التغيير التي قد تواجهها المنطقة كالأحداث غير المتوقعة والمخاطر التي لم تكن في الحسبان، كذلك خلت من الاستراتيجيات اللازمة لعلاجها والتعاطي معها.
لقد ضربت كل تلك الرؤى في مقتل نتيجة لذلك، وعاد العالم العربي من دون رؤى اقتصادية أو سياسية مستقبلية جريئة وجذرية وجادة وحقيقية، يعالج أزماته المستفحلة بلا استراتيجيات ولا مشاريع شمولية ذات أبعاد مستقبلية مستدامة، ويحل مشاكله العارضة والطارئة والمستفحلة يوماً بيوم ويصوّب مجدداً في الظلام.
إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"العدد 4602 - الإثنين 13 أبريل 2015م الموافق 23 جمادى الآخرة 1436هـ
في الصميم استاذة
حتى الجانب التربوي وجميع قطاعات الصناعية والثقافية و غيرها
حدثت ضجة اسمها رؤية لمستقبل
وكل ما تم بذله اخذته رياح التغيير
لكن وجهة نظري ليس عدم التخطيط لما قد يحدث من متغيرات
انما عندما تقلد الغير لمجرد الاستعراض وبدون قصد حقيقي وصادق لتكون افضل فأنك تبني قصورا في الهواء...وتلهي وتشغل الجميع وتضيع الوقت والجهد والمال من اصحابه ومستحقيه