الكتابة هذه وإن جاءت مُحدَّدةً في بدايتها في جانب من القطاع الإعلامي؛ وخصوصاً الصحافة المقروءة، فلا يمنع أن تُعرِّج على فئات أخرى. المراحل التي يتم فيها وصول الصحيفة إلى القارئ ليست بتلك البساطة التي تصل فيها وتلقُّف الأيدي لها، تركيزاً على الصفحة الأولى. بعض يبدأ بالصفحة الأخيرة، ومتابعة التفاصيل والملاحق، ثم فتح جهاز الحاسوب، ذهاباً إلى موقع الصحيفة؛ لوضع تعليق هنا، أو ملاحظة هناك، أو صُراخ وتذمُّر هنالك.
من الاجتماعات الصباحية التي يتم فيها تحديد «المقادير»، باعتبار الصحافة، أو الخبر، التحقيق، الريبورتاج، التحقيق المصوّر، التحليل السياسي، مراجعة الإصدارات، كلها في نهاية المطاف طبخة، في صورة أو أخرى، ولها مقادير، مروراً بتحديد الأولويات، والأخبار المهمة التي ستأخذ مكانها في الصفحة الأولى، تبدأ الأقسام والوحدات في القيام بأدوارها والمهمات التي كُلِّفت بها، من السعي وراء مصدر الخبر، تصوير ما يرتبط به، كتابته، مروره على قسم التصحيح والديسك، إلى وصوله للشكل ما قبل النهائي، دخولاً إلى مرحلة التنفيذ، ومن ثم الإنتاج، وتلقُّف المطبعة له. ثمة جيش هنالك أيضاً له أولوياته وترتيباته، ومراحل عمله الدقيقة. يكون معظم القُرَّاء في أسرَّتهم ينعمون بنومهم اللذيذ، فيما أولئك على خط جبهة الإنتاج.
الصحيفة في نهاية المطاف: سلعة لها مواصفاتها، تطرح في السوق، ولها أطراف ترتبط بها من المؤسسات التجارية التي لن تروج سلعها وخدماتها من دون الإعلان، إلى الوزارات والمؤسسات الحكومية التي مهمتها الأساس الترويج لـ «حققنا» و»أنجزنا» و»للمرة الأولى»، وما عدا ذلك من الأفضل ألاَّ تشير إليه وإلا فأنت مُغرِضٌ ومتحاملٌ وتعمل لحساب أجندات داخلية وخارجية.
الكُتَّاب الذين ترتبط بهم الصحيفة أو يرتبطون بها هم أيضاً لم يقنعهم حتى اليوم رؤية نتاجهم من خلال مواقع الصحف. للورق رائحة وعلاقة ربما لا نستطيع تفسير طبيعتها، والسحر الذي تبعثه بذلك الالتصاق.
أصحاب الاشتراكات، والذين يشكَّلون مصدر دخْل ودعم لعمل أية صحيفة، هم أيضاً في انتظار وصولها في الوقت المحدَّد لها؛ أو الوقت الذي اعتادوه، وربما خمس دقائق من التأخير، تفتح أبواب جهنم على أكثر من طرف، وخصوصاً بالنسبة إلى أولئك الذين أصيبوا بالإدمان والاعتياد على صحيفة دون غيرها. القارئ عموماً، هو الجهة النهائية التي يتوجَّه إليها مثل ذلك المشروع، هو المعنيُّ بهذا الكلام.
العملية لها مفتاح يوصل إلى كل أولئك. فئةٌ ننظر إليها بتعالٍ أحياناً، وبتهميش، أو كأنه ليست هنا، وفئة تدسُّ «خبز الصحافة» الطازج في الصناديق المخصصة لها، وهي تجوب البلاد طولاً وعرضاً، للوفاء بالتزامات الصحيفة تجاه منافذ التوزيع؛ وأولئك الذين يتخذون من النواصي وإشارات المرور والمداخل الرئيسية والشوارع الحيوية مواقع لتوزيع الصحيفة.
حين تتأخر على المشترك... على الوزارة... الهيئة... المؤسسة... المصارف، منافذ التوزيع، أول من يُصبُّ جام الغضب عليه هو المُوزِّع؛ وكأنه ابتدأ بها. كأنه من ترأس الاجتماع الصباحي، وهو من حدَّد «المقادير»، وهو من حدَّد الأولويات والأخبار المهمة، وهو الذي يدير الأقسام والوحدات للقيام بأدوارها والمهمات التي كُلِّفت بها، وهو المسئول عن الشكل ما قبل النهائي، وعن مرحلة التنفيذ، والإنتاج، وحتى الإشراف على مراحل العمل في المطبعة.
إذا قمنا بحساب دقيق وهادئ، فإن كل الدوائر المنتظمة والمعقدة، والأفراد المرتبطين بها؛ لا معنى لعملهم ولا أثر إذا لم يصل عناؤهم وجهدهم ورؤيتهم وبحثهم ومواهبهم إلى جهة متلقية. إنهم موزّعو الصحف، فرفقاً بهم في كل الأمكنة التي يتواجدون فيها. رفقاً بيقظتهم المبكرة، ونومهم الشحيح. رفقاً بهم وهم تحت سياط الشمس التي تنال منهم في أكثر شهور السنة. رفقاً بهم وهم عرْضةٌ لطقس غاضب ومزمجر وسيَّال؛ وإن كانت شهوره نادرة.
بما سبق، وبما سيأتي من كتابة لاحقة، كثير من الحق علينا لموزِّعي الصحف؛ ما دمنا في حدود المهنة التي نُحْسِن؛ من دون أن يعني ذلك نسيان وتجاهل والتطاول واستباحة حقوق فئات أخرى؛ سنجدها في الصميم من تفاصيل حياتنا وترتيبها والإسهام في جعلها أكثر مرونة وحيوية وقابلية كي تستمر.
ليسوا وحدهم حين حصرنا التناول على موزِّعي الصحف؛ فلنا من الشواهد من تلك الفئات المهمَّشة الكثير؛ وأقربها إلينا عاملات المنازل والعاملون؛ ولا يبعدون كثيراً عن التدرج السالف ذكره، وغيرها كثير من الفئات؛ وخصوصاً تلك التي بسبب وعي متخلف من بعضنا؛ يمكنه أن يحول البلد إلى مكب نفايات اعتماداً على عامل آسيوي جاء من آخر الدنيا، وبحساب ذلك الوعي؛ كي يزيل القبح والبذاءة العملية التي يمارسها كُثُر؛ بالاعتماد على ذلك الغريب الذي نمارس إذلالنا له مع كل ثانية من انعدام الحس والشعور وإلقاء «النظافة من الإيمان» وراءنا! الذين يحضرون فجراً بدراجاتهم الهوائية قاطعين المسافات الطويلة وقد كلَّلهم عرق العناء، وثيابهم الرثَّة كي تبدو مركباتنا نظيفة وأنيقة، كما نريدها لائقة بنا.
الذين يحفرون الأنفاق، ويمدُّون الجسور، ويُعبِّدون الطرق في جهنَّم أغسطس؛ كي نخفِّف من تذمرنا وألفاظنا البذيئة في زحام الطرق والتقاطعات، وغباء الإشارات الضوئية، ومزاجية الموكولين بها. كل أولئك علينا أن نراجع موقفنا الأخلاقي والإنساني تجاههم، إذا أردنا أن نؤكّد أننا ممتنُّون لهم، ولنعشْ أدوار الوهم والصلف والتمييز بانحيازنا لأن نكون «أبناء ذوات»، ولا بأس بعدها أن يكون على رأس أي منا غابة من رِيش الطواويس، لا ريشة واحدة؛ إذا أدَّينا حقوق أولئك، بسلوك إنساني متحضِّر.
نعرِّج على تلك الفئات وغيرها، تذكيراً بأن أبسط البشر هم الذين يتولّون تقديم ما ننجز إلى العالم، ومن دون ذلك التقديم بالتحمُّل والشقاء والصعوبات التي تعترض طريقهم ما كان لأهميتنا أية أهمية وقيمة، كذهب في الصحراء وأموال في متاهة؛ ذلك هو واقع الحال الذي نهرب منه؛ ولا نريده أن يهيمن ويحضر في التفاصيل من حولنا؛ لأنه سيكشف عن كمٍّ من العُقَد والتجاوزات والتمييز أيضاً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4601 - الأحد 12 أبريل 2015م الموافق 22 جمادى الآخرة 1436هـ