العدد 4599 - الجمعة 10 أبريل 2015م الموافق 20 جمادى الآخرة 1436هـ

المرأة قبل النفط... آمنة عبدالحسين عبدالله

آمنة عبدالحسين عبدالله.

قرية عالي.

تاريخ الميلاد: 1923م.

شهادة: ابتسام الموسوي (حفيدة).

تاريخ المقابلة: مايو/ أيار 2010.

تاريخ الوفاة: ديسمبر/ كانون الأول 2013.

امرأة من قرية عالي في التسعين من عمرها ألهمتني ولامست لديّ مشاعر القوة والتعايش، حقاً أن الله يأخذ ولكنه يعوض، ربما يمنحنا أعضاء للاستشعار بها ولكن هناك أشخاص في هذا العالم ممن لديهم الحواس الخمس ولكنهم يفشلون في استخدامها لما أبعد من ذلك «في دواخلهم وبصائرهم». هذه المرأة مارست القوة لتتمكن من الصمود لمواجهة الحقيقة. فقدت آمنة بصرها في السادسة من عمرها، فأصبحت ضريرة، كانت قوية منذ أن كانت صغيرة إلى أن أصبحت امرأة فقد كان لديها قلب واعٍ وإحساس بالكرامة وعزة النفس. إيمانها عزتها بنفسها قادتها إلى حياة من التحرر والصبر والمعاناة.

كما أخبرتني، بأن رجلاً كبيراً في السن رأى آمنة في مراهقتها بجانب ينبوع الماء الموجود في القرية، بنت بيضاء اللون طويلة القامة ممسكة بجرة الماء على رأسها، تتمشي برشاقة، فُتِن بمنظرِها وصلابة مظهرها الرياضي فطلب يدها. كان يكبرها بكثير، متزوج من اثنتين ولديه الكثير من الأبناء. لم تكن لدى آمنة وبنات أخريات في ذلك الوقت الجرأة في اختيار شريك حياتهن. كان والدها رجلاً فقيراً يتمنى لبناته حياة كريمة. تزوجت آمنة وتركت المنزل وذهبت إلى المنامة لتجد مستقبلاً غير واعد ينتظرها هناك على العكس مما توقعت.

عاشت في المنامة أربعة عشر عاماً مع زوج قاسٍ لا يعرف أي نوع من الرحمة فقد كان يضربها ويعاملها معاملة لا أخلاقية، إلى جانب زوجاته اللواتي لم ينسوا واجبهن تجاه تلك الزوجة التي أهملت وعُوملت معاملة سيئة، ولكن ذلك لم يوقفهن من الغيرة والتآمر عليها للإحباط من معنوياتها على رغم كونها ضريرة.

في هذه الفترة رزقت آمنة بابنتين هما زينب ونعيمة، لم تتحمل العيش مع ذلك الرجل وزوجاته فطلبت الطلاق. غادرت مع بناتها إلى قريتها عالي وسكنت عند والدتها، اكتشفت آمنة أنها حامل بعد طلاقها بابنتها الثالثة فاطمة، فحاول الزوج استرجاعها بإغرائها بأساور من الذهب ولكنها لم توافق على العرض.

بينما كنا جالسين في بيت ابنتها الصغرى فاطمة، همست الأخيره في أذن والدتها «أمي، لو كنت قد قبلتي الأساور الذهبية التي قدمها لكِ والدي لكنتِ اليوم غنية» فردت آمنة «خسئ، لن أنسى ما عمله بي أبداً ولن أرجع إلى شخص مخادع مثله».

رجعت آمنة إلى منزل أهلها في الخمسينيات من القرن الماضي. أكثر من نصف قرن مضى عليها وهي لم تنسَ معاملة زوجها القاسية وتركه لبناته دون سند في أيام الفقر الصعبة ومعاناة الحصول على قوت يومهم وسكن يؤويهم. وزادت معاناتها فقدها لابنتها الوسطى نعيمة ذات الخمس سنوات. فقد كانت تلعب مع خالها بكسارة المكسرات فضربت بها، لقد تركت تنزف كثيراً إلى أن فارقت الحياة، لا أدري ماذا أسميه جهلاً، فقراً أم لامبالاة؟

كان اسم نعيمة يرن في مسامعها كالجرس فكانت كلما سمعت بفتاة أو امرأة باسم نعيمة تسأل «كيف حال نعيمة، كيف هي صحتها؟» فما يكون جواب ابنتها فاطمة «أماه إنها ليست ابنتك، إنها امرأة أخرى، لا تشغلي بالك كثيراً بها» لكنه قلب الأم رقيق وحساس لا ينسى أطفاله ولو طال الزمن على الفراق.

لقد برهنت آمنة على صلابة المرأة وتحملها رغم إعاقتها فقد منَّ الله عليها بملكة وموهبة لتتكسب منها معيشتها «الله أكبر. عندما يغلق الله باباً يفتح سبعة أبواب أخرى للرزق».

سألتُ آمنة «من علَّمك السفّ (حياكة الأشياء من خوص النخيل)» قالت «ربي» لم تقنعني هذه الإجابة ولكني تداركت بأن آمنة ضريرة وعندما رأيت منتجاتها، هتفت قائلة «سبحان الله، هو الوحيد الذي بإمكانه مساعدة هذه المرأة» رأيت بعض أعمالها مثل القفة وعندما فحصتها رأيت التصميم الرائع وتناسق الألوان. بالفعل كان كل شيء منسق بطريقة محكمة، هو عمل صانع ماهر بإمكانه إنجاز ذلك بجدارة.

بحكمة وإيمان وضّحت آمنة لي «كنت محتاجة فأعطاني الله» وكانت محقة في ذلك، فقد كان مورداً مادياً بالنسبة لها. عاشت مع والدتها وبناتها وأمضت طوال حياتها تسف إلى أهالي عالي. ولكن في الوقت الراهن ومع تقدمها في السن توقف الطلب على بضاعتها. لقد افتقدت السف كثيراً وأوضحت بأنها تحب عملها وبإمكانها إنجاز أي طلبات جديدة.

تعتمد قرى البحرين في السابق على النخلة في أشياء كثيرة. فالنخلة تعطيهم الرطب (من كتاب «من تراث البحرين الشعبي لصلاح المدني وعبدالكريم العريض الطبعة الثانية 1994 ص 188). فهو غذاء جيد. أما جريد النخيل فيستخدم في صناعة الحصير والسلال الصغيرة والكبيرة وأغراض أخرى. يستخدم سعف النخل في صناعة السلال وحياكة السجاد وكذلك المراوح اليدوية. فالحصير مصنوع من سعف النخيل ومحاك بطريقة مميزة. يستخدم في المنازل للجلوس عليهم. أما أن يكون بلون واحد أو عدة ألوان. يتشابه الحصير والسفرة في كل شيء عدا أن الحصير يأخذ شكلاً مستطيلاً أو مربعاً، أما السفرة فتأتي على شكل دائري. يستخدم الحصير للجلوس عليه بينما تستخدم السفر لوضع الأكل فوقها. والزبيل هو عبارة عن حاوية ذي عدة استخدامات في وضع حاجيات المنزل وكذلك الخضراوات. يستخدم الزبيل في نقل الرمل والحجارة في القديم، وكان يستخدم أيضاً في نقل حاجيات العروس من بيت أبيها إلى بيت زوجها. يحتوي على مساكتين مصنوعتين من الخيوط أو السعف لتسهيل الاستخدام. أما الميص فهو نوع آخر من الزبيل ولكنه يختلف بعض الشيء عن الزبيل العادي في الحجم. يأتي الميص بحجم أكبر من الزبيل. يستخدمه صيادو السمك لعرض الأسماك للبيع في السوق على الأرض وذلك قبل إنشاء السوق المركزي.

القفة هي أصغر من الزبيل، تستخدم في تخزين الملابس وبعض حاجيات المنزل، دائماً تكون مطرزة بألوان زاهية. عموماً تستخدم القفة في تنظيف الرز من الشوائب. وكذلك تستخدم بمثابة المنخل قبل استخدام المنخل المعدني في الوقت الحاضر. والسفرة هي عبارة عن سجادة دائرية الشكل بها ممسكة وممسكتان مصنوعتان من أغصان النخيل، لتسهيل عملية الت ليق على الجدار. تأتي السفرة بنقوش مختلفة وألوان متعددة. يستخدمها الناس بدل المرتبة التي توضع على السرير أو الكرسي وحتى بمثابة طاولة الطعام في هذه الأيام وعلى الأرض في تلك الأيام عندما كان الطعام يقدم على الأرض. أما القلة فهي قفة كبيرة مصنوعة من الخوص لوضع البلح عندما يصبح تمراً للحفاظ عليه من الغبار أثناء عملية الحفظ. غالباً ما تكون أسطوانية الشكل ومغطاة من الجانبين بخيوط مصنوعة من سعف النخيل. وغالباً لا تكون مزخرفة. وتعرف المروحة بالمهفة وهي مربعة الشكل ممسكة بقطعة من جذع النخلة لسهولة الاستخدام وتكون مزخرفة بألوان زاهية، تستخدم للتبريد ولتقليل الحر قبل دخول المروحة الكهربائية والمكيف.

تأخذ آمنة شهراً كاملاً في صناعة الحصير بمقاس 60 باعاً (أربعة أذرع - ياردتين قياس قدم) وفي المقابل يدفع لها خمسون فلساً سعر لذلك في زمنها. ارتفع السعر بعد ذلك إلى 6 روبيات. أتخيل كيف لتلك المرأة الفقيرة أن تقضي كل ذلك الوقت والحصول على القليل من المال.

لقد تأثرت كثيراً حين رأيت انحناء ظهرها إلى أقصاه عندما كانت تهمّ في الذهاب إلى دورة المياه. توضح لي بأنها كانت طويلة القامة فعلاً وفقدت نصف طولها من هذا الانحناء. كنت سعيدة وأنا أراها تقوم بجميع أعمالها الخاصة مثل الاستحمام والذهاب إلى الحمام وترتيب حاجياتها وكذلك الاعتناء بنفسها. الحمد لله فهي لا تعاني من أي مرض عضال مثل الضغط والسكري ولكنها تأخذ دواء لآلام الركب. كما ذكرت لي ابنتها «لم أشعر أنها حمل علي. فهي تأكل جيداً وتنام جيداً ولا تحب أن تكون مريضة وتستمع جيداً لتعاليم الأكل الصحي».

عندما كنت جالسة، طلبت من حفيدتها أن تعطيها فنجاناً من القهوة ولكنها أعطتها استكانة (كوب يستخدم للشاي الأحمر) ثانية من الشاي فرفضتها قائلة «للتو شربت واحد، أريد قهوة؟»

سألتها «ماذا تقولين عن الحياة اليوم، حاجيه؟» ردت قائلة «اليوم، نحن نعيش نعمة بني إسرائيل، لم نكن لنكسب عشرة دنانير في ذلك الوقت ولكن الآن نحن نكسب العشرة والعشرين». أمانينا الطيبة للمرأة القديرة التي كافحت بإيمان وقوة إرادة. آمنة هي فقط أحد الأمثلة التي لابد أن تذكر.

في سنها الكبير تقضي آمنة وقتها بالاستماع إلى قناة إيران الإذاعية. وهي تعرف أسماء خطباء المنبر الحسيني منهم فاضل المالكي وكمال الحيدري. فهي تضع إشارة على كل شريط لكي تميز بينهم والاستماع لما تشاء حيث تشاء.

همست ابنتها في أذنها «كم تاريخ اليوم؟» فأجابت «اليوم هو 28 من ذي الحجة وهو يوم الأحد بالليل» وكانت محقة في ذلك. لقد بهرتني لقوة انتباهها للوقت واليوم.

شعرها طويل وهي تطليه بالحناء وتعرف الوقت الذي يوجب عليها إعادة طلائه. فقدت معظم أسنانها وكذلك سمعها. لحسن الحظ، كانت قادرة على الذهاب للحج. كما قالت لي ابنتها إنه أخذها أخوها إلى الحج وطاف بها الشوط الأخير حول الكعبة على كتفه.

لفتت انتباهي قصة آمنة وجعلتني أفكر كيف لي أن أستمر في هذه الحياة. حقيقة، فالعيش لعمر التسعين لابد أن يكون رحلة طويلة لا يبقى فيها إلا الأصلح.

في يناير/ كانون الثاني 2014م كانت والدتي ترقد في المستشفى في وحدة عناية القلب وزارتها ابتسام حفيدة آمنة. أخبرتني ابتسام بخبر وفاة والدتها قبل شهور وكان لذلك الأثر المؤلم بالنسبة لآمنة (والدة المتوفاة) فتردّت حالتها الصحية إلى أن وافتها المنية في 23 ديسمبر 2013 بعد حياة مليئة بالتحمل والصبر.

العدد 4599 - الجمعة 10 أبريل 2015م الموافق 20 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً