العدد 4599 - الجمعة 10 أبريل 2015م الموافق 20 جمادى الآخرة 1436هـ

بين باربار ومقابة: البحث عن المركز

لقد سبق أن أشرنا في سلسلة مقالات سابقة، أنه من المرجح أن دلمون كانت تتكون من عدة مقاطعات أو مدن صغيرة ولكل مدينة ملك محلي يحكمها، بالإضافة لوجود مقر الحكم الرئيسي في موقع قلعة البحرين والذي يوجد فيه قصر الملك الدلموني المطلق (Laursen 2008، 2010). إلا أن هذا وصف دولة دلمون في حقبة ذروتها، أي بعد العام 2000 ق.م.، وليس في حقبة التأسيس التي سبقت ذلك. ويبدو أنه من خلال عدد من المعطيات التاريخية والآثارية، والتي إن صحت، فإن دلمون في حقبة التأسيس لم يكن مركزها في موقع قلعة البحرين، لأن الذي كان يمثل السلطة الحاكمة، في تلك الحقبة، هم الكهنة والمعابد. كذلك، يرجح Hojlund أن التحول من نظام الكهنة والمعابد لنظام السلطة المركزية، لم يكن تحولاً سلمياً بل كان مصاحباً لمعارك وتصادمات (Hojlund 2007، p. 159).

المرجح أن الفضل في تأسيس دلمون على جزر البحرين يعود لهجرة جماعات متثاقفة من الجنوب الرافدي متأثرة بحضارتين أساسيتين هما الحضارة السومرية وحضارة وادي السند (During-Caspers 1995)، (Laursen 2010). هذه الجماعات قاموا بنقل العديد من المعارف السومرية والسندية إلى دلمون، كتقنية بناء المعابد، وتقنية صناعة الأختام الدلمونية المبكرة ونظام الأوزان الخاص بحضارة وادي السند والذي تم تطويره في دلمون وعرف باسمها (مينا دلمون). وقد تعايشت هذه الجماعات مع شعوب سامية من شرق الجزيرة العربية وأسسوا دولة دلمون، وكونوا بذلك شعب دلمون (Laursen 2010)(Hojlund 1989). فبالتالي، فإنه من المتوقع أن يكون نظام الحكم في دلمون، التي في طور التأسيس، شبيه بالنظام الذي كان سائداً في سومر أو في وادي السند. وهو النظام الذي كان يعتمد على الكهنة والمعابد في إدارة مناطق الاستيطان. وقد ظهر هذا التأثير في بناء معابد باربار ومعبد الدراز والتي بنيت على مصادر المياه؛ حيث يرجح أنها كانت تتحكم فيها وفي طريقة توزيعها على الأراضي الزراعية. ولذلك فإن منطقة باربار الحالية كانت مركز التحكم في القرى الدلمونية التي نشأت في شمال كبرى جزر البحرين. هذا وقد رجح Larsen أن يكون هذا الموقع مركز القيادة في دلمون (Larsen 1980، p. 98).

الأموريون وتأسيس دولة دلمون

كان الأموريون يقطنون المنطقة الممتدة بين بلاد الرافدين ودلمون في شمال وشرق الجزيرة العربية، وفي نفس حقبة تأسيس دلمون بدأت هذه الجماعة في التوسع (Zarins 1986). وقد بدأت هذه الجماعات تغزوا بلاد الرافدين، وفي قرابة العام 2000 ق. م. كونت جماعات منهم سلطة سياسية تسيطر على عدة مدن في الجنوب الرافدي (Hojlund 1989). ويرجح أنه بعد العام 2000 ق. م. سيطر الأموريون على السلطة السياسية في دلمون؛ حيث ظهرت الأختام الدلمونية المتأخرة التي تميزت بفن النقش الأموري – الرافدي، كما تم العثور على نقوشات لتجار من دلمون يحملون أسماء أمورية (Hojlund 1989). وقد صاحب ذلك توسع دولة دلمون التي أصبحت تشمل شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا. وتعتبر الفترة 2000 - 1800 ق. م. فترة الذروة لدولة دلمون التي تميزت بتأثيرات أمورية - رافدية (Hojlund 1989).

لقد أدت السيطرة الأمورية على دلمون إلى تغيير نظام الحكم، من نظام الكهنة والمعابد إلى نظام الحكم المركزي. وقد صاحب ذلك عملية تحول في مراكز القيادة، من مواقع المعابد كما في باربار وبين باربار والدراز، إلى موقع قلعة البحرين، والذي عثر فيه على قصر الملك الدلموني بالإضافة للعديد من المباني الإدارية. ويرجح Hojlund أن دخول الأموريون للبحرين لم يكن سلمياً، بل أنهم قاموا بمحاربة مركز دلمون في باربار، وقاموا بقتل العديد من الطبقة التي كان لها تأثير كبير في دلمون كالكهنة وكبار التجار (Hojlund 2007، p. 159). ويعتمد Hojlund، في هذا الترجيح، على المقبرة الجماعية التي عثر عليها بالقرب من مدخل قرية باربار.

مخزن عظام أم مقبرة جماعية

في العام 1960م، وعن طريق الصدفة، اكتشف قبر كبير أو مقبرة جماعية دلمونية شمال شارع البديع، وعلى بعد 500 متر، غرب مدخل قرية باربار، وقد أطلق عليه مسمى «مخزن العظام». هي ليست قبراً جماعياً دلمونياً اعتيادياً، فهي حفرة كبيرة بها العديد من الهياكل العظمية التي دفنت بصورة عشوائية وبدون أي طقوس جنائزية. إضافة إلى ذلك تم العثور فيها على 17 ختماً، منها 14 ختماً من نوع الأختام الدلمونية المبكرة، والتي ظهرت في الطور التأسيسي لدولة دلمون أي ما بين 2200 - 2000 ق. م. (Hojlund 2007، p. 159). هذه الأختام لم تدفن مع أصحابها، بل أن المرجح أنها كانت بحوزة أصحابها لحظة موتهم. الصورة بأكملها تثير الشبهة، فموقع القبر، أو المقبرة الجماعية بالقرب من معبد باربار ومعبد الدراز، وهي مواقع تحكم أساسية، فهي تتحكم بتوزيع المياه على الأراضي الزراعية لأنها بنيت فوق قنوات المياه (Hojlund 1989). ثانياً، من ضمن الأشخاص المدفونين في هذا القبر، يوجد 17 تاجراً يحملون أختامهم، علماً أن الختم يورث لتستمر به إدارة التجارة (Hojlund 2007، p. 159). وأخيراً، فإن 14 ختماً، من الأختام التي عثر عليها في القبر، تنتمي لأختام دلمون المبكرة (Kjaerum 2007)؛ أي أنها تعود لحقبة تأسيس دلمون.

تشير هذه المعطيات، أن الموتى (لا يعرف عددهم) في هذه الحفرة قد قتلوا، ربما ضمن حرب أدت إلى إبادة جميع من في المنطقة أو غالبيتهم، بحيث لم يبقَ أحد لدفنهم مع ممارسة الطقوس الجنائزية، أو أن من تبقى منهم، تم منعهم من دفن هؤلاء بصورة تليق بهم (Hojlund 2007، p. 159). فهل هذا القبر أو المقبرة الجماعية هي إحدى نتائج هجوم الأموريين على دلمون وسيطرتهم عليها؟. من السهل معرفة ذلك؛ وذلك بدراسة عظام هؤلاء الموتى للتعرف إذا كان هناك آثار رضوض أو جروح، إلا أن لا أحد درس ذلك (Hojlund 2007، p. 160). لقد دفن الدليل بداخل القبر الكبير الذي لا نعلم موقعه بالتحديد.

باربار الجنوب

لم تفقد باربار أهميتها، حتى بعد زوال دولة دلمون بمئات السنين؛ فقد أصبحت شمال باربار من مراكز الاستيطان الخمسة الأكثر أهمية في القرن التاسع الميلادي، والذي نشأ في موقع معابد باربار. وفي القرن العاشر الميلادي بدأ الاستيطان في هذا المركز بالتوسع ليشمل ساحل جنوسان، وبنهاية القرن الثاني عشر توسع الاستيطان ليشمل الساحل الممتد من قرية باربار وحتى قرية جد الحاج. ويبدو أن هذا الساحل أصبح أحد أهم الموانئ لهذه المنطقة.

كذلك، وفي قرابة القرن الثاني عشر أيضاً، بدأت تزداد أهمية موقع باربار الجنوب، الذي بدأ الاستيطان فيه. يقع هذا الموقع بالقرب من القبر الجماعي الدلموني الذي سبق الحديث عنه. وعلى الرغم أن هذا الموقع يقع في قرية باربار إلا أن الذاكرة الشعبية تحتفظ بذكريات خاصة لهذا الموقع فتصنفه أنه متقاسم بين قريتي مقابة وباربار. فمنذ مئات السنين وقبل رصف شارع البديع، كانت قريتا مقابة وباربار متداخلتين. ويبدو أن بين هاتين القريتين أنشأت قرية مهمة، وبني بها مسجد، والذي يعد حالياً أقدم مسجد تم العثور على آثاره على شارع البديع. هل هذا يعني، أن حول هذا المسجد أنشأت سوق مركزية تجمع القرى المحيطة بهذه المنطقة؟ يتبع.

العدد 4599 - الجمعة 10 أبريل 2015م الموافق 20 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً