ربما تكون أقرب صفة لطبيعة بعض المشروعات التي يشتغل عليها الباحث والمفكِّر العراقي هادي العلوي، هي أنها إشكالية من باحث هو بطبيعته إشكالي؛ علاوة على الأدْلجة التي لا تخلو منها، ولن نفصِّل في أنه اختط لنفسه قواعد في "العربية" لا علاقة لها بالقواعد التي نعرف، ولذلك مبحث تفصيلي آخر ليس هذا مقامه.
في الطبعة الجديدة لإصداره القديم "الاغتيال السياسي في الإسلام" الصادر عن دار المدى العراقية في 144 صفحة من الحجم المتوسط، يعالج العلوي واحداً من أكثر الموضوعات إشكالية في "التاريخ الإسلامي"، لا "الإسلام". والعلوي يكرِّر خلطه؛ ليس على مستوى بعض عناوين كتبه، بل في بعض المعالجات والتناول والاستشهادات التي يضعها أمام القارئ، مشكِّكاً في بعض المتواتر منها في أكثر المصادر والمراجع التاريخية، ومتبنيِّاً وواثقاً من بعض الروايات اليتيمة، تلك التي يوردها مؤرخ أو راوية، فتكون لديه موضع استدلال واستشهاد. حدث ذلك في كتابه "من تاريخ التعذيب في الإسلام"، إلا أن الإشكال في "الاغتيال في الإسلام الذي ربما لا نجده فاقعاً في متن الكتاب كما حدث لكتابه الأول، هو في العنوان، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع الكتاب الآخر، والذي كان من المفترض أن يكون بالصيغة المنطقية له "الاغتيال في التاريخ الإسلامي"، وكأن العناوين بالنسبة إلى العلوي أول الصدمة، التي تتوافق مع الصدمة التي تولدها مثل تلك الموضوعات والتناولات التي يشتغل عليها.
إشكال العنوان يكمن في محاولة إلصاق (أو هكذا يمكن لأي قارئ أن يفهم ذلك) ممارسة التعذيب أو الاغتيال باسم الإسلام، وكأنه واحد من التشريعات، ووجه من وجوه الحدود التي عمد إلى خلطها ووضعها جنباً إلى جنب مع التعذيب الذي مارسته أنظمة ودول وجماعات وعائلات ومراكز قوى في العصر الإسلامي المتقدم، وخصوصاً فترة الدولة الأموية ومن بعدها العباسية في كتابه "من تاريخ التعذيب في الإسلام". ذلك الإيحاء هو ما يجعل المنهج لا ينجو من الاضطراب، ولذلك تبيان نوضحه أثناء استعراض الكتاب.
الخلط في المنهج
قلنا إن الخلط في الكتاب الذي بين أيدينا سيكون أقل وضوحاً منه في الكتاب الأول؛ إلا أن العنوان يضع القارئ في ما هو أكبر من الإيحاء بمثل ذلك الخلط.
مقدمة الكتاب تتناول الاشتقاق اللغوي لمفردة "اغتيال"، من الجذر الثلاثي: غ و ل، والذي يفيد الهلاك، على زنة افتعال في صياغته، ويفيد الطلب، بما ينطوي على العمْد والقصد. في المرادف، هنالك الفتْك، وتعني القتل العمد، وأيضاً القتل على غرَّة، وينص على ذلك "الزمخشري" في "الأساس"، وفي الحديث النبوي "الإيمان قيْد الفتْك". "وميَّز اللغويون الاغتيال عن الفتك؛ فالاغتيال إذا قتله من حيث لا يعلم، والفتْك إذا قتله من حيث يراه وهو غارّ: غافل.
الحكم الشرعي وتجارب العهد النبوي
في الفصل الأول من الكتاب، يستند العلوي إلى تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) للآية 38 من سورة الحج: "إن الله لا يحب كل خوَّان كفور..."، وسبب نزولها أن مسلمي مكة استأذنوا النبي في قتل المشركين الذين آذوه، سرَّاً، فنهاهم ونزلت الآية لتؤكد هذا النهي.
وضمن مساحة في الكتاب، يؤكد أن الموقف الإسلامي من الاغتيال، لا يتعدَّى منحى جاهلياً كان فيه من النبل والمروءة والفروسية التي تمسَّك بها أصحابها في تلك الفترة المظلمة بالقتال وجهاً لوجه "ولا تقر ملاحقة الهارب، والفارس الجاهلي إذا صادف خصماً له خاطبه بالعبارة الشائعة: خذ حذرك، فإني قاتلك، قبل أن يهاجمه".
ومن التاريخ وإليه، يعرِّج العلوي على بعض مصادر السيرة التي تضمَّنت ثماني وقائع اغتيال، فيها من النجاح وفيها من الفشل. في هذا الفصل، وفي أول البعثة النبوية لا يتردد العلوي - كما أشرنا في بداية الاستعراض في الخلط هنا، فأول حادثة اغتيال ينسبها إلى النبي (ص)، وبأوامر منه للنيل من زعماء اليهود الذين كانوا يشكِّلون الطابور الخامس لمشركي قريش: "فكان لمحمد أن يسعى لإضعاف تأثيرهم عليه، وكانت وسيلته المبكرة إلى ذلك هو الاغتيال، الذي وجِّه للتخلص من عناصر مؤثرة بينهم، وقد نفذت ضدهم خمس خطط اغتيال: كعب بن الأشرف، سلَّام بن أبي الحقيّق، ابن سنينة، اغتيال امرأة (لا يذكر اسمها، لأن المصادر لم تذكرها!)، أبوعفك، خالد بن سفيان، رفاعة بن قيس الجُشَمي، عبهلة (الأسْود العنسي). الخلط والتناقض بيِّن ويصدر عن هوى وهو بيِّن لا يحتاج إلى لافت فطنة، ففي الوقت الذي يصدِّر كتابه بالنهي عن الاغتيال استناداً إلى الآية التي نزلت مصداقاً لنهي النبي عنه، يلصق بالنبي (ص) عمليات اغتيال وليس عملية واحدة، متناسياً في الوقت نفسه الأحاديث الدالة على النهي عنه؛ واتخاذه موقف النهي قبل نزول الآية في المساندة له والمؤكدة عليه؛ على رغم أن التعريف بالكتاب يشير إلى أن العلوي يرصد ظاهر الاغتيال السياسي التي يلجأ إليها الجبناء وضيِّقو الأفق والمتعصِّبون المتخلِّفون. لكن في السياق، والعنوان نفسه يذهب المنهج باتجاه مرْكزة ذلك الإجراء والموقف في الإسلام نفسه. وفي هذا المقام، يظل تبرير العلوي في منهجه "المضطرب"، في الفصل الأول من كتابه خصوصاً، أن الدعوة لم تشتد بعد، والمؤامرات لا تحصى على الكيان الجديد، فيجد تبريراً من عندياته ليسوِّغ ويشنِّع في الوقت نفسه مثل ذلك الفعل والإجراء!
في الخلافة الراشدة
يتناول هادي العلوي في الفصل الثاني من الكتاب أربع حوادث اغتيال فترة خلافة الراشدين، طالت خليفتين وصحابياً وقائداً "شيعياً"، يبدأها بسعد بن عبادة المعروفة قصته مع الخلافة بعد وفاة النبي (ص)، وهجرته إلى حوران في الشام، ويورد أنه مات في ظروف غامضة سنة 14 للهجرة، استناداً إلى ثلاث روايات، واغتيال الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، على يد فيروز الديلمي المُكنَّى أبولؤلؤة، وكان مولى للمغيرة بن شعبة الثقفي، واغتيال علي بن أبي طالب عليه السلام، ومالك الأشتر.
في الخلافة الأموية
يحضر اغتيال الإمام الحسن بن علي عليه السلام بعد أن سلَّم الخلافة لمعاوية، وقصة سمّه لا يكاد يخلو منها مصدر من مصادر التاريخ من الفريقين، وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد، الذي حقَّق إنجازات كبيرة في الفتوحات، وخصوصاً في آسيا الوسطى "جلبت له شهرة واسعة بين أهل الشام، أضيفت إلى رصيده الموروث من والده". فدُسَّ له السم في شربة، وتشير الروايات إلى ابن أثال، الذي تم إعفاؤه من الضرائب، هو من قام باغتياله، كما يقول ابن أبي أصيبعة.
كما يتناول الفصل اغتيال الخليفة العادل، عمر بن عبدالعزيز، وبحسب رواية الطبري، في حوادث 99 التي أعقبت استخلاف عمر بعد أن استعرض مفاوضاته مع وفد من الخوارج، أن بني مروان "خافوا أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال فدسُّوا إليه من سقاه سُمَّاً".
يعرِّج الكتاب على وفيات مشبوهة في التاريخ: معاوية بن يزيد بن معاوية، مروان بن الحكم، عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز، يزيد الناقص، الإمامين علي بن الحسين ومحمد الباقر عليهما السلام. كما يتناول الاغتيال من جانب المعارضة، مخصصاً الفصل الرابع للعصر العباسي وعمليات الاغتيال فيه.
يفتقد الكتاب في كثير من استشهاداته بالروايات التاريخية التي يوردها على عواهنها، إلى تحقيق في تفاصيلها والمطابقات بالمقابل لها في الموضوع والحادثة نفسها. هو يكتفي بإيراد الممارسة، وأسبابها من روايات متنافرة وقليلاً ما تكون متوافقة؛ مع تأكيد إشكالية إلصاق عملية الفتك أو الاغتيال بالإسلام كدين ومنهج وتشريع، لا ممارسة أفراد ومتكالبين على مصالح ومراكز قرار وتأثير، وأحياناً بدوافع عصبية وجاهلية تحتكم إلى رداءة الأخلاق والتخلِّي عن الفروسية وقيمها التي كان عليها رعاع العرب وجهَّالهم.
الكتاب له جانبه الممتع بذلك الكم الهائل من الاستشهادات بالروايات التاريخية دون تمحيصها وتحقيقها، والأخذ بها على علَّاتها وعوارها، وهو من حيث المنهج لا يخلو من اضطراب وانتقاء وتجيير للكثير من تلك الروايات، وأحياناً إقحامها إقحاماً.
احسنت
جدا عجيب تلخيص الكتب وايضاح الملابسات خدمة للدين والمجتمع