ونحن في طريقنا إلى مجمع جامعة المنار، حيث يعقد المنتدى الاجتماعي العالمي بتونس العاصمة، كانت هناك مفاجأةٌ تنتظرنا. فقد كان هناك حشد غير اعتيادي من البشر، لم نلحظه في المنتدى السابق في العام 2013. نعم، فعلى إثر العملية الإرهابية في متحف باردو، كان لابد من اتخاذ إجراءات أمنية لحماية المشاركين في المنتدى والحؤول دون تسلل عناصر إرهابية، وهكذا وضعت نقطة تفتيش في مدخل الجامعة.
لكنه وخلال فترة الانتظار التي استمرت لأكثر من ساعة، لفتت انتباهي مفارقاتٌ ستتأكد وسيضاف إليها المزيد خلال أعمال المنتدى. الملاحظة الأولى أن الغربيين عموماً ملتزمون بدورهم في صف الانتظار، فيما نحن العرب والأفارقة نتزاحم بطريقة «كل من سبق لبق». وسيتكرر ذلك خلال الانتظام لكل الفعاليات، بدءًا من التسجيل، مروراً للحصول على وجبه الطعام، وانتهاء بدخول والانتظام في القاعات.
أما الملاحظة الثانية فهي أن غالبية الغربيين يحملون معهم كمبيوتراتهم الشخصية، فيما العرب والأفارقة يثرثرون مع بعضهم البعض أو في هواتفهم. بل وانتقلت العدوى حتى أثناء الندوات، فليس غريباً سماع رنات هواتف القادمين من العالم الثالث، وحديثهم بصوتٍ عالٍ، ومعظم الأحيان في قضايا تافهة مشوّشين بذلك على المنتدين والمستمعين. فيما الغربيون يغلقون هواتفهم حالما يدخلون القاعات، ويشغّلون كمبيوتراتهم الشخصية.
الملاحظة الثالثة، هو أنه وبسبب التزاحم على حجز القاعات، فقد طلب المنظمون من المشاركين الالتزام بمواعيد بدء وانتهاء الفعاليات، والمحافظة على الهدوء والنظافة، لكن ذلك لم يكن محل احترام أبناء العالم الثالث، ومحل احترام الغربيين. ويمكننا البناء على ذلك في التحضير للندوات، سواءً بإعداد الأوراق أو استخدام «البوربوينت»، فمعظم المتحدّثين من عالمنا النامي يصرّون على الارتجال، ومحاولة إقناع الحضور بفكرة مسبقة في ذهن المتحدث حتى لو لم تكن هي موضوع الندوة وبطريقة فجة أو باللجوء إلى الصراخ.
لكن أسوأ ما شهده المنتدى هو التحشيد في محاولة فرض أجندة معينة ووجهة نظر معينة، وليس بطريقة آنية، بل بتخطيط مسبق وحشد الجمهور، وترديد شعارات وهتافات جرى التمرن عليها مسبقاً، ورفع يافطات وأعلام معدّة مسبقاً. ونسوق مثالاً على ذلك قضية الصحراء الغربية أو المغربية، فقد كان الوفد الجزائري بمعظمه مدعوماً من الدولة ويرتدي ملابس موحّدة، واصطحبوا معهم وفداً من الصحراء الغربية، واستأجروا بالمال خيَماً كبيرة، ونظّموا مسيرات وندوات داخل الجامعة، بل وجلبوا مطربين أفارقة ذوي إيقاعات راقصة من أجل الترويج لجمهورية الصحراء الغربية الديمقراطية، وتشويه صورة المغرب.
بالمقابل، كان هناك أبناء الصحراء الغربية المغاربة وضمن وفد المغرب، ولكن المغاربة لم يقوموا بالتحشيد ولم يكونوا بلباس موحد، وينتمون إلى جمعيات ونقابات ومنظمات مجتمع مدني مختلفة، عددٌ منها معارضٌ للنظام الحالي، وتصرّفوا بتهذيب وعقلانية. ذلك ما أثار الوفد الجزائري فأثاروا عراكاً في الخيمة المغربية في نقاشٍ أقحموه على الندوة، وقد تكرّرت المواجهات المؤسفة.
ومن أغرب التظاهرات تلك المؤيدة لفلسطين ومقاومة «إسرائيل»، حيث وضعت صورة صدام حسين إلى جانب شهداء وقيادات الثورة الفلسطينية.
تنوّع الوفود وتباينها أكثر كان في تلك الوفود القادمة من أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، فهؤلاء ليس وراءهم دولٌ ولا أجهزة، وأتوا ليطرحوا قضايا شعوبهم ودعم قضايا العالم الثالث وخصوصاً فلسطين وتونس والعولمة المتوحشة وحقوق الإنسان. ولذلك تلمس صدقهم وعقلانيتهم، وحرصهم على احترام من يختلف معهم. هؤلاء لم يأتوا للاستعراضات ورفع الأصابع بإشارةٍ لنصر مفقود، بل وهم الآتون من مجتمعات مرفّهة، لم يتوانوا في السكن الداخلي المتقشّف ومع عائلات تونسية، في حين أن دولاً وأجهزةً في عالمنا العربي المنكوب استأجرت فنادق بأكملها لوفودها مع «خرجية» مجزية.
يمكن ملاحظة هذه المفارقة أيضاً في المسيرتين الجماهيريتين خلال المنتدى، حيث المسيرة الأولى في اليوم الأول والتي خصصت للتضامن مع تونس ضد الإرهاب وانطلقت من ساحة سعود عبر شارع الاستقلال الطويل حتى متحف باردو، وفي حين كانت شعارات وهتافات القادمين من العالم الأول هي للتعبير عن تضامنهم مع الشعب التونسي ضد الإرهاب وتحية الثورة التونسية، واستنكار مواقف أنظمتهم المخاتلة، فإن معظم هتافات وشعارات وفود العالم العربي فئوية وبعضها لتمجيد بلدانهم وأنظمتهم، والقليل من التضامن مع تونس وشعبها. ورغم أن المسيرة صادفت طقساً شديد البرودة والأمطار الغزيرة، إلا أن المشاركين صمدوا وواصلوا المسيرة التي استغرقت ساعتين حتى نهايتها.
أما المسيرة الثانية والتي كرّست للتضامن مع الشعب الفلسطيني في ذكرى يوم الأرض، فقد شهدت كثيراً مما شهدته المسيرة الأولى، ولن أكرّر ما ذكرت. لكن المفارقة هي مزايدة البعض على الفلسطينيين بتحريرها من النهر إلى البحر، والهجوم الشنيع على الدول العربية، والإشادة بأنظمة استبدادية باعتبارها مؤيّدةً لفلسطين.
هذا العرض ليس للتقليل من أهمية المنتدى الاجتماعي العالمي وايجابياته فهي كثيرة، فالذي جمع الثمانين ألف مشارك، ومنهم عشرون ألف غير تونسي، قضيةٌ كبيرةٌ، وهي تضامن الشعوب في مواجهة أعداء الشعوب وفي مقدمتهم «إسرائيل» والإرهابيون والعولمة المتوحشة، وغيرها. وقد تم التعبير عن ذلك، ونسجت علاقات وترتيبات فيما بين الآلاف من المشاركين ومنظماتهم من أجل تعزيز نضال البشرية، والتحضير للمحطة القادمة للمنتدى في مونتريال بكندا، في أغسطس/ آب 2016. لكنني ارتأيت أن أعرض لمظاهر سلبية، تخصّنا نحن العرب بالأساس من أجل محاسبة النفس ومراجعة ما جرى، ونقد ذاتي من أجل أن نخدم قضايانا المشتركة بشكل أفضل.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4596 - الثلثاء 07 أبريل 2015م الموافق 17 جمادى الآخرة 1436هـ
انظمة متوحشه
هؤلاء الذين أتوا بزي موحد والذين اثاروا البلبله هم نتاج الانظمه المتوحشه ولا يملكون رؤيه