وأخيراً، تفاهم المتخاصمون «النوويون». ثمانية أيام عاصفة، نغَّصت على مدينة لوزان السويسرية هدوءها وجمالها الخلاب، لكن، تلك الأيام أيضاً منحت المدينة الوادعة، والمسنودة بجبال الألب شهرةً لا حدَّ لها، كونها احتضنت «صلحاً» مهماً بين أطراف كادت ومازالت تتهارش فيما بينها بقسوة، وفي أكثر مناطق العالم حساسية وخطورة.

حتى فندق بوريفاج الذي جرت في رَدَهاته المفاوضات، وتم فيه ذلك التفاهم، سيحظى هو الآخر بأهمية وشهرة خاصة أمام العالم، وكأنه يعيد ذكرى قاعة المرايا في قصر فرساي، والتي شهدت توقيع وثيقة إنهاء الحرب العالمية الأولى 1919. لقد كانت ساعات وأيام «بوريفاجية» حافلة فعلاً، وقف العالم خلالها على رجل واحدة.

كانت الدول المفاوِضة، قد وضعت طائرات خاصة لوفودها تربض في مطار جنيف الدولي بطاقمها الملاحي. حيث كان الأمل في المفاوضات ينعقد، ثم يأفل، ثم ينعقد، فيغادر بعض رؤساء الوفود على حين غرة إماً ضغطاً على أطراف التفاوض كما فعل وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، أو لإنجاز مهمات قريبة كما فعل وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.

جاء الغربيون بأفضل ما لديهم من عقل فني لمواجهة أعقد ملف تقني، وهو عالِم الفيزياء النووية والمدير السابق لمبادرة الطاقة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ووزير الطاقة الأميركي إرنست مونيز. فيما جاء الإيرانيون بتلميذه عندما كان يدرس الدكتوراه في الهندسة النووية والميكانيكية بمعهد ماساتشوستس علي أكبر صالحي. وكان أوباما يُعوِّل على سرعة جَرَيَان الكيمياء بين الأستاذ والتلميذ لإنهاء الخلافات، وهو ما حصل.

لقد كانت مشكلة تلك المفاوضات أنها تناقش «ملفاً عميقاً» بالضبط كما يجري الحديث عن مشاكل الدول العميقة. بمعنى، أنه كلما حُفِرَ في أمر وكاد قاعه أن يظهر، اكتُشِفَ أن للقاع قاعاً آخر. فذلك الملف «النووي» لم يكن نووياً فقط بل كان بجوانب أخرى لا تقل استعصاءً عليه، لذا كان البحث عن حل لكل مفردة وسطر وقضية، يدفع الأطراف لأن تُوظف كل طاقتها الفنية والسياسية وكأنها تبحث عن إبرة في كومة قش.

لنا أن نتخيَّل بأن آخر يوم من المفاوضات، استمرت جولة النقاش فيه من الساعة السابعة صباحاً ولغاية الساعة الثانية والنصف فجراً من اليوم التالي! تسع عشرة ساعة ونصف الساعة من التفاوض والنقاش والرد ورد الرد، ثم تلا ذلك الذهاب إلى صياغة البيان الختامي ومراجعته كلمة كلمة، وهو ما جعل المتفاوضين يترنحون من التعب.

فرؤساء وفود الدول الخمس (الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين) كانوا شائخين عمرياً مقارنةً بالإيرانيين، حيث كانت أعمارهم ما بين 60 و72 عاماً. أما رئيس الوفد الإيراني فقد كان في الـ 55 من العمر، بينما بقية أعضاء الوفد ما بين 49 و57 عاماً، وهو ما أثر بشكل كبير على طبيعة تعاطي الوفود مع الوقت والجهد المبذول.

أيضاً، من المسائل التي كانت حساسة جداً، هي أن الدول الست كان بينها خلاف حول العديد من القضايا الفنية والسياسية والقانونية، فلكل منهم عقوبات خاصة به فرضها على الإيرانيين، ولكل منهم حلفاء تختلف منازلهم بالنسبة للأطراف الأخرى. ولا أعني هنا الصين وروسيا من جهة وبقية الدول الغربية من جهة (والتي هي خلافات أكيدة) بل بين الغربيين أنفسهم، وبالتحديد ما بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا. وهو أمر أثر كثيراً على سير العملية التفاوضية وعلى طبيعة التوافقات التي تمت.

كذلك، كان لإيران في لوزان أصدقاء، لكنهم أصدقاء «لدودين» كروسيا والصين. فهاتان الدولتان، لهما علاقات وثيقة بإيران، لكنهما أيضاً كانتا مستفيدتين من التناقض الغربي الإيراني، وكانتا تفاوضان خصومهما في الغرب على أثيره، وبالتحديد في مسائل الطاقة وقضايا الشرق الأوسط وغرب وجنوب آسيا، وبالتالي كان ذلك من الأشياء المكتومة في مفاوضات لوزان، وكان الوفد الإيراني يراقب ذلك عن كثب في أصدقائه.

لذلك، رأينا الروس يقولون بأن «قناعة موسكو هي أن حظر توريد الأسلحة إلى إيران يجب أن يرفع فوراً بعد التوصل إلى اتفاقات مع طهران»، مشيرين إلى أن «عدم منطقية إدخال هذا الموضوع بالذات في سياق الملف الخاص بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل»، وهو ما يعني أن الروس يعتبرون علاقاتهم مع الإيرانيين جزءًا لا يتجزأ من حركتهم في القوقاز ومنطقة الخزر، فضلاً عن آسيا الوسطى وعموم الشرق الأوسط، ويريدون استعمال تلك الورقة في تلك المناطق، عبر تغيير موازين القوى العسكرية لتخفيف الضغط عليهم.

حتى مسائل البروتوكول في تلك المفاوضات كانت حساسة. فقد تحاشى المنظمون أن يجعلوا المؤتمر الصحافي في المتحف الأولمبي الواقع بجوار فندق بوريفاج، كونه كان يضم تماثيل لرياضيين عراة، وذلك خشية من أن يُمثل ذلك إحراجاً للوفد الإيراني أمام مرؤوسيه والتيار المتشدّد في إيران، لذلك نُقِلَت الوفود ومعهم الصحافيون، إلى أحد المراكز التعليمية حيث المكان البديل، بمعداتهم الثقيلة التي كانوا قد نصبوها في المتحف.

في المحصلة، ما يهم هو إدراك أن ما جرى في لوزان هو خطوة ما قبل الاتفاق. فالموعد الحقيقي يكمن في نهاية شهر يونيو/ حزيران المقبل، أي بعد 86 يوماً من الآن. وكما قال نائب وزير الخارجية الروسي فإن تلك الاتفاقية هي «وثيقة بالغة التعقيد ينبغي بلورتها بجميع تفاصيلها»؛ وأن «أمل روسيا في ألاّ تكون هناك ضرورة إلى إرجاء عقد الاتفاقية إلى أبعد من ذلك»، وهو ما يجعل لقاء موعد يونيو الأهم مما جرى قبل أيام وأهم حتى من اتفاق نوفمبر 2013.