مفرد «الأعباء» عبء، ويعني الثقل أو الالتزام بشيء، وبلغة المحاسبة «التكاليف المطلوبة». وفي حياتنا اليومية، وحسب مواقعنا وأدوارنا في الحياة، تقع على كاهلٍّ كل منا كثرة من الأعباء كمستوجبات ومسئوليات مستحقة، أو حتى عبء رغبات ملحة في اقتناء بعض الأشياء أو تحقيق الأحلام.
بعض هذه الأعباء لا يمكن الفكاك منها أو التمرد عليها إلا في حال التقصير أو الإخلال بتحمل المسئوليات، بيد إننا في سياق المتعارف عليه نضع على كواهلنا أنماطاً من الأثقال التي لا داعي لها في الوقت الذي يمكننا التخفف من حملها لاسيما الرغبة المفرطة في الشراء أو السفر وما شابه، فهذه وتلك ترهقنا وتستهلك طاقاتنا وتبددها بل وتوصلنا في بعض الأوقات إلى حالة من الضيق والاضطراب والشعور بالفوضى التي تأتي على حساب تحقيق المتعة والسعادة.
تناول علماء النفس اتجاهات سلوك الأفراد بالدراسة والتحليل في هذا الجانب، واقترحوا العديد من أساليب الضبط والتوازن من خلال ممارسة استراتيجية التخفف من هذه الأعباء في مختلف المجالات، خصوصاً أن هذه الاستراتيجية تمثل برأيهم صيانة للنفس وادخاراً للوقت والمال، ووصفة مثالية للتخلص من القلق والتوتر والإحباط الذي يتسبب فيه شعورنا بعدم الرضا عن النفس في حال التقصير بتأدية الواجبات الاجتماعية أو الضيق عند عدم الحصول على ما نرغب فيه.
إن اتباع استراتيجية التخفف كفيل بمنحنا القدرة على عيش لحظات حياتنا اليومية بشكل مميز ومريح، ما يعنى إننا في طريق الراحة والسعادة. وفي مجتمعاتنا غالباً ما نقع تحت ضغوط ما يمليه علينا الآخرون وتوقعاتهم خصوصاً الأهل والأصدقاء والجيران، فيرتفع لدينا بإفراط الشعور بأهمية القيام بالواجب حتى على حساب صحتنا وأنفسنا، كالحرص مثلاً على الالتزام بالزيارات العائلية بانتظام لا يكل، وتلبية الدعوات لحفلات الزفاف وحضور مجالس العزاء ومناسبات أعياد الميلاد والموالد الدينية والاجتماعية وغيرها مما لا يعد ولا يحصي.
بالطبع إنها التزامات تتطلب وقتاً ونفقات تبعاً لدرجات القرابة والعلاقات، والكثير منا يستسلم لتلبية تلك الأعباء والإيفاء بها دون مناقشة ودون رسم الحدود ووضع الفواصل، ولأننا مجتمعات استهلاكية ترزح تحت تأثير ثقافة الأسواق المعولمة فغالباً ما تتسم اتجاهات سلوكياتنا بالمبالغة في ابتداع المناسبات وما يترتب عليها من شراء المستلزمات والهدايا وبسط موائد الطعام التي تعكس الكرم الحاتمي، فنقع فريسة أعباء مادية ونفسية تثقل كواهلنا وتدخل البعض من حيث يدرك أو لا يدرك في دوامة شره الاستهلاك ومراكمة الديون وبذل الجهود بما يفوق القدرة والحاجة معاً. وعلى رغم السعادة والراحة اللحظية المتحققة، إلا إنها في أغلب الأحيان تولد بعض التوتر والقلق لاعتبارات تجنب التقصير مثلاً في تأدية الواجبات المتوقعة من الآخرين وما تفرضه الأعراف والتقاليد، أو الإيفاء مادياً تجاه مناسبات متكررة قد يكون أغلبنا في غنى عنها.
لا يفهم من حديثي دعوة مفتوحة للتمرد أو التنكر والتحلل من المستوجبات تجاه من حولنا أبداً! صحيح إن المسألة نسبية ومتفاوتة، بيد إنها أعمق مما نرى، كونها تتطلب دعوةً للنفاذ إلى الواقع بواقعية أكثر، وموضوعية تكسر أسلوب الحياة الاستهلاكي الرتيب المرهق، وأن ننظر ببصيرة أكثر عقلانيةً عبر التخفف من كل ما ليس له ضرورة أو لازمة في حياتنا، وعدم المبالغة في تبذير النفقات غير الضرورية وبذل الجهد ومضيعة الأوقات التي تجعلنا في نهاية المطاف أسرى قيود حياة شكلانية زائفة تحرمنا السكينة والراحة ومتعة بساطة اللحظة في حياتنا.
من أسفٍ أن الأعباء لا تقتصر على معاملاتنا وعلاقاتنا مع بعضنا فقط، إنما تتمظهر من ناحية مكملة في علاقتنا بالأشياء وتصرفاتنا تجاهها، كأن نقع بسهولة تحت ضغط الإعلانات التجارية وما تحمله لنا فاترينات المحلات من عروض، صرنا لا نقاوم التجوال في المجمعات والاستسلام لشره الشراء دون ضوابط، حتى غدت منازلنا وعلى اختلاف المستويات المعيشية، في حال تخمة بما تحتويه خزائن المؤن. تعوّدنا الشراء بإفراط وبكميات تفوق حاجاتنا واستخداماتنا خصوصاً في شهر رمضان الكريم ومناسبات الأعياد، واعتاد أغلبنا على الأكل في المطاعم وطلب الوجبات السريعة للمنازل، وتكدّست الأرفف بالحاجيات وبمخلفات الصحف والأواني المنزلية والأدوات الكهربائية والالكترونية الزائدة.
أما البرادات فامتلأت بالمواد الغذائية التي غالباً ما يكون مصيرها التلف والقمامة، وخزائن الملابس هي الأخرى تئن وتفيض عن حاجتنا بما تحتويه خصوصا ونحن نستسلم لعروض التخفيضات التي لا تتوقف على مدار العام. مغريات وحسومات لا تستوقفنا للسؤال قبل الشراء: ما مدى حاجتنا لكل ما نشتريه ونجمعه بكميات؟ وما مدى ضرورة هذا الكم من الملابس وحاجتنا إليها؟ وما يزيد الطين بلّة، أن أغلبنا يقتني الجديد ويكدسه مع القديم الذي بعضه لم يستهلك أصلاً، فتتراكم الأشياء وتخلف لنا فوضى وعبئاً في منازلنا تفقدنا القدرة على التحكم بهذا التمدد والسيطرة عليه.
حقاً إنه لعبء ثقيل سددنا نفقاته وربما أدخلنا في مديونية ولم ننتفع منه، بل ولم نشعر حتى بالسعادة لامتلاكه وتخزينه. تذكّروا أن المبالغة في سلوكياتنا تجاه الالتزامات أو مراكمة الأشياء والمقتنيات الفائضة في خزائننا تستهلك طاقتنا وترهقنا وتشتت انتباهنا، وهي التي تتحوّل في نهاية المطاف إلى أكوام نفايات تشغل حيز المكان وتتراكم فوقه الأتربة والغبار، وقطعاً التخفف منها سيضفي على حياتنا شعوراً بالتخفف من الأعباء والراحة والانطلاق.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4593 - السبت 04 أبريل 2015م الموافق 14 جمادى الآخرة 1436هـ
شكرا
سلمت أناملك..مقال يضع اليد على الجرح ..ويلامس واقع جميع المستويات..أصبحت البيوت مخازن..والنفسيات مثقلة والجيوب خالية
مشكورة على هذا المقال, لأن مكتباتنا فقيرة لهكذا مواضيع.
نعم نحن بحاجة إلى هكذا مقال حيث إنه يطرد الأفكار, الإنفعالات والسلوك الخاطئة إلى حداً ما...
نشكر الكاتبة مجدداً وجريدة الوسط للنشر.
احسنتي
اسلوبك جميل وراقي في كل مقالاتك