حين يقرأ. ويقرأ بعين المعرفة، لا العين التي نعرف فحسب. يمكن للشاعر أن يقترب؛ أو يقبض على وعي نقدي عميق. يمكنه أن يؤصِّل - وبعمق - بعيداً عن المدارس والمناهج النقدية التي تدخلك من باب، ولكنك لن تجد مخرجاً تعود منه.
تأتي المقدمة لتسلِّط الضوء على «مكابدات الأمل» للشاعر البحريني، قاسم حدَّاد، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر العام 2012.
ثمة تقديم آخر على هامش التقديم الأول يتحدَّد في أن كثيراً من الشعراء اليوم؛ على الأقل ممن أعرف، وأولئك الذين بالإخبار عبر وسائل الاتصال، تتحدَّد مساحتهم المعرفية في ما يُحْسِنون من «رصْف» أو كتابة النصوص. عشرات منهم إن لم يكن مئات وآلاف، لا يقرؤون رواية في العام. ومنهم لا يقرأ كتاباً نقدياً لسنوات، ومنهم لا علاقة له باللوحة والسينما والمسرح منذ سنوات أيضاً، وذلك ينسحب على بعض كُتَّاب القصة القصيرة والرواية. ولنكن أكثر تحديداً: هنالك من الشعراء من لم يُنهِ قراءة مجموعة شعرية في العام! وينسحب الأمر نفسه على بعض كُتَّاب القصة والرواية. هذا الاختزال لتجارب العالم من قبل الشاعر والقاص والروائي، في ما يكتبه، هو ما يجعله محصوراً وأسير تجربته، أتت بالمبهر أم لم تأتِ. اختزال المعرفة من حوله بما ينجز من تلك الألوان التعبيرية. ذلك وهم مقيم في القناعات، ولكنه الواقع أيضاً، ويكشف عن داء عضال. والمشكلة أنه يتحدَّد في الوهم بانتهاء التجارب عنده، وضرورة اعتماد العالم عليه. والوهم لا تدخل جراحياً يمكن أن يصحح أوضاعه وحالاته. بالنسبة إلى حدَّاد يظل انفتاحه على كل تلك الألوان التعبيرية، وحتى النقدية والتأصيلية عن قرب ومتابعة والأهم من كل ذلك، له فيها نظر ورؤية.
النقد... الرؤية
في الكتابة الخارجة عن تصنيف الشعر؛ أو النص المفتوح؛ أو حتى الكتابة التظهيرية، أو حتى الانطباعية، تأتي تجربة حدَّاد في المتاخمة النقدية المنعتقة من صرامة المناهج، والذهاب في إسقاط مصطلحات ومفاهيم نقدية هنا وهناك، مُلفتة هي وعميقة وعلى قدْر كبير من المنهجية أيضاً؛ وكما قلنا، من دون أن يتلمَّس أو يقيِّد رؤيته ويحصرها في منهج نقدي قائم. تلك تجربة لم يتم الالتفات إليها كثيراً؛ أو لم يتم تناولها في ما يتم أو تمَّ من إضاءات على المُنجز الذي حققه حدَّاد، ومازال يراكمه.
ليس «مكابدات الأمل» وحده المعنيُّ بالتناولات اللافتة التي يخوضها حدَّاد في الإضاءات النقدية، بالوقوف على بعض تجلياتها، يمكن العودة أيضاً إلى كتابه «نقد الأمل»، على رغم احتوائه على نصوص تُحطِّم الأشكال المُتعارَف عليها؛ إلا أننا سنقف على مساحات من المتاخمة والمقاربة والتجليات النقدية. خذ مثلاً في كتابته «الجذور والأجنحة» «صار للشعر العربي الآن أن يَحتفي بالمنحنى التعبيري الذي يجتازه. لم تعد الصورة ولا الإيقاع ولا اللغة هي الأدوات ذاتها، أعني المفاهيم ذاتها ثلاثة أشياء يستطيع المتأمل المختص أن يكتشف الاختراق الذي أصابها على أيدي جيل جديد من الكتابة (لئلا أقول من الشعراء)».
حتى في المساحة الشعرية. حتى في تحطيمه للأشكال المُتعارف عليها، لا تخلو تلك النصوص من توغُّل نقدي إلى حدٍّ ما. خذ مثلاً «هذه الكتابة إذن! يذهب إليها الكاتب لئلا يمنح الموت فرصة الذهَب. الكتابة وهي تعبث بنا، هي البديل المُتاح، كي لا يحدث الموت على مضض». في الوقت الذي يمنح الشاعر الكتابة روحها، تمنحه تلك الكتابة أكثر من روح، ولكن ليس على مضض. إنه استحقاق لا تنتهي صلاحيته بمغادرة الشاعر العالم؛ بل بعد ذلك بكثير؛ مادام ذلك الشعر حيَّاً، تاركاً الموت في ممارسته العادية التي لا تتوقف.
وفي «نقد الأمل»، أيضاً كما هو الأمر في «مكابدات الأمل»، لن يستعصي على كُثُر الدخول في ألفة مع الكتابات التي تناول فيها حدَّاد عدداً من النصوص، أو تلك التي ذهب فيها تناولاً لظاهرة هي على تماس مع الكتابة أو تلك التي هي على تماس مع جوانب سوسيولوجية؛ يستنطق الظواهر تلك... يفككها برؤية الشاعر وأدواته. من قال إن الشاعر يخلو من الأدوات الناقدة؟ في كثير مما يكتب هو كذلك.
في الهوية
خذْ مثلاً كتابته في «الحرية هوية الكائن» يقول: «الآن، في غابة العصبيات المُسْتعرة، ليس يخلو من المخاطر الكلام عن الهوية، في ظل حكومات تتلاعب بهويات البشر من منظور خيمة القبيلة وعقليات (الجمع والمنع)، خصوصاً عندما يتعلق الأمر باعتبار كل وارد أو وافد في هذه المنطقة هو مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة».
يبدو التناول هنا ذاهباً في اتجاه النظر إلى الهوية من الخارج. يحتاج النظر إلى الهوية للداخل من حيث الدالَّة المُعرِّفة بالمكان أيضاً في الوقت الذي تُعرِّف فيه الفرد، ويبني عليه اتصاله بالمجموع البشري من حوله، ونظر المجموع البشري إليه. بالنظر إلى الأجنبي وهويته، والتعاطي معه من قبل المنظومة باعتباره مواطناً بعد الدرجة الأولى، إذا قبلنا بمثل ذلك التصنيف البغيض، لا يتم الحديث عن المتجذِّر في الأرض والمنتمي الطبيعي لها، باعتباره عرضة إلى ما هو أقسى من ذلك التصنيف الذي يطول الوافد، وقد لا يتحصَّل على تصنيف من الدرجة العاشرة. ليس كل أجنبي أجنبياً في جغرافيتنا، فقد يتمتع بامتيازات في النظر، وبنظر إليه يفوق ما يمكن أن يتمتع به ابن الأرض؛ بحيث يتحول ابن الأرض هو الأجنبي واقعاً؛ علاوة على ملحقات تصنيفه والتبعات. تلك إشكالية لم يرد حدَّاد الاقتراب منها وله أسبابه وهامش احتمالاته.
لنعُد إلى «مُكابدات الأمل»؛ حيث تتقلَّص مساحة تحطيم الأشكال في النصوص، لتغلب المتاخمة والمقاربة والتجليات النقدية.
المهم في الأمر أن تنظر بعين النقد، لا بعقله بمنهجه شبه الثابت والمنقول عندنا. دفعت بنا الاتجاهات النقدية المعاصرة، تلك التي لا يوجد من بينها منهج عربي حتى هذه اللحظة، إلى تفويت الفرصة للوقوف على جماليات النص بعيداً عن المشرط النقدي الذي أصيب بالصدأ، وما يمثله من بتر للسياق في تناولاته - عربياً - وضمن إشكالية المناهج التي لا تنتمي في أدواتها إلى بيئة الثقافة نفسها، ولم تُحدث تراكمها الخاص؛ سواء على مستوى المصطلح أو تفصيلاته، والهوامش التي تنتج عنه.
إلى موضوع الهوية تذهب تلك الكتابة عميقاً؛ ليس في حدود التأملات فقط، أو الاكتفاء بالانطباع حولها، في التقاط زاوية حادة على تماس بالمكان (البحرين) «حين يُسهم البحر (جغرافياً) في صياغة الطبيعة الإنسانية والاجتماعية، بوصفها ملمحاً تفصيلياً لكائنات هذه المنطقة، فإننا ندرك بأن البحر بدوره ليس سمة محلية، خاصة، في أي مكان أو زمان، وهي لا تصمد كشرط ناجز لهوية مختلفة، فالخليج يظل، عميقاً، شرفة عربية على هذا الماء الشاسع من الخليج إلى المحيط».
ثمة تنويع وتعدُّد في النظر إلى الهوية، ولذلك تمظهرات في الكتابة نفسها التي جاءت تحت عنوان «الحرية هوية الكائن»، من خلال تناوله الهوية في «الكلام القومي»، وفي «الكلام الديني. قد تتفق، وقد تختلف مع رؤيته، ولكنها رؤية صادرة عن استقلال في النظر، واستجلاء القيمة من وراء المفاهيم التي تظل عرضة للتعويم، ولا يطولها التناول والنظر بالأدوات التي تنظر إلى الواقع اليوم كما هو، لا كما يُراد أن يُنظر إليه. في تناوله للهوية من منظور/ كلام قومي يشير إلى أن «الكلام القومي عن الهوية، ذهاباً إلى التحصُّن بأوهامنا العنصرية التقليدية، التي تضع العرب في غير سياقهم البشري، وبمعزل عن التبلور الكوني للحياة مع الآخرين، وهي أوهام سحقتْنا في التجارب السابقة، وتوشك على صقْل سلوك فاشي كامن».
وعن الهوية في الكلام الديني «سيشي، غالباً، بالعصبوية الإسلامية كلما جرى الكلام عن الأصالة، بوصف الدِّين - فقط - هو القيمة والحل والمصير».
بالنظر إلى الواقع اليوم، ومن دون محاولة القفز على المسلَّمات فيه، في الكلام ذاك مساحة كبيرة من الحقيقة، ويصدر عن نظر لا مكان للعاطفة فيه. فعلى المستوى القومي في النظر إلى الهوية، إذا ما تمعَّنا في بعض تجلياته، يكون قد أقام في العنصرية تلك، وأصبحت شكلاً من أشكال الهوية أو أحد محدِّداتها! وعلى المستوى الديني، باختزال وتقسيم البشر إلى معسكرين، تتبنَّاه دول بعد أن تبنته جماعات وأحزاب وتكتلات!
الهوية والافتقار
إلى المجتمع المدني
في انتقالات لا تبعد عن أساس الموضوع، يتناول حدَّاد الهوية وعلاقتها بالمجتمع المدني. كيف يمكنك الحديث عن الهوية والحرص عليها، في ظل منظومات تعمل للحيلولة دون تبلور شكل وواقع مقنع للمجتمع المدني؟ «إن الكلام عن الهوية في مجتمع يفتقر إلى خاصيات المجتمع المدني، بسائر شروطه المؤسساتية والتشريعية، هو ضرب من الموقف الغامض، لئلا أقول في مستوى الشبهة، في خضمِّ العصبية القومية، وتصاعد الأصولية الدينية، التي لا ترى في الآخر سوى العدو. الآن، ينبغي أن نرى إلى هذه الأطروحة بقدر كبير من الريبة والحذر، ونضع أمامنا شرط الحريات قبل أن نتحدث عن الهويات. فكل كائن، أياً كانت جنسيته، لن يمتلك هويته الإنسانية ما لم يتمتع بالحقوق التي تكفل له حرياته».
الإصغاء... الفريضة الغائبة
في الكتاب نفسه نقف على «ديمقراطية الإصغاء». حتى وهو يحدِّثك/ يكتب عن الإصغاء، تلك الفريضة الغائبة في السلوك العربي اليوم، لا يقترب منها بتلك السذاجة التي اعتدنا، يقترب منها بحاسة وأدوات الشاعر، تلك القادرة على النفاذ إلى تقريب المعنى، من دون أن يتخلَّى عن مساحات العمق فيه. هي كتابة عن الحواس/ الحاسة من حيث تعطيلها؛ أو غلبة واحدة على أخرى. إنه الإسراف أيضاً في إحداها، وإهمال الأخرى. ليست حواسنا جميعنا في حدود التغطية إذا صح التعبير، الكثير منها خارج تلك التغطية.
«أنت لن تقدر أن تكون مُحاوراً فاعلاً ورصيناً ما لم تتأكد وتثبت قدرتك على استخدام أذنيك أكثر من لسانك».
وفي تساؤله الذي يختم به الكتابة تلك «هل نضطر دوماً إلى التأكيد على أن الحرية هي ديمقراطية الإصغاء؟». يكشف عن عالم/ عالمنا الذي تتحدَّد معالمه بتلك الطاقة اللامتناهية من إنتاج الضجيج. هو دون الكلام، وأبعد من الفعل. كيف لعالم أن يصوغ رؤيته الخاصة للعالم من حوله، وبالتالي لعالمه، إذا كان متورطاً في ما هو دون الكلام، وأبعد من الفعل؟!
كتابة الحياة
حتى الكتابة التي يمكن تمييز انفصالها عن النقد؛ لا تخرج عن دائرة النظر إلى الحياة ونقدها أو مديحها. محاولة البحث عن صيغة ما للاقتراب من كمالها. لا حياة كاملة؛ وستكون مبعث ضجر حين تكون كذلك.
كتابات مثل: حصَّتنا في البحر، «فاطمة»... من خط النخيل إلى بيت البحر، ماء يوقظ النهار، لم تكن النساء تكفيه، كائنات ممر الطفولة، السيدة السمراء في «المحرق» بزنديها الحانيتين، الشاعر، «ليلى فخرو»... لا نتذكرك لأننا لا ننساك، «هشام الشهابي»... قل شكرًا لنفسك، «أحمد الشملان»... التجربة في سياقها الإنساني، أول البحر، مُهرِّج يتماثل للنوم، الثلج في الخارج، لا تثق، واسأل الشك وامشِ على شوكه، من يصْدُق في الحب لا يُخطئ في الحياة، ناحية «حانة الذئب»، سحقاً للقصب الذي صار ناياً، جبل يُصغي للريح، حزن طويل القامة، درس الأرز، يؤخذ على المرآة صراحتها، تنهُّدات حارس الحلم، لكم دِينكم، وللخارجين الأجلَّاء دَيْنٌ عليكم، نورس يرسم البحر بجناح مكسور، محاولة لتقليد البحر، تعرف القاعدة جيداً، تكسرها بشكل ممتاز، لا تخدمْ ملوك العرب ولا تملكْ عبيدهم، الوحيد وحده، في الشعرية، المجاز... مكْر اللغة، «لا تخف من الكمال، فلن تدركه»، الوسيمون يوقظون الغرائز، اللغة... في حضرة المليكة، كأن في الفتن فتنة، «فلنزرع حديقتنا»، هكذا تكلَّم «فولتير»، عبدالقادر عقيل، أن تذهب إليه بطفولتك لئلا تخطئ طفولته، غازي القصيبي، قدمان في زرقة البحرين، أمين صالح، لا يروي، لكنه يرى، الماغوط، لستَ محسوداً على الموت، ولسنا على الحياة، عذابات المثقف (ك) واقع يقرأ «القلعة»، لحظة النص/ لحظة الجسد، سيرة النص/ رواق، اسمعْ يا «آرثر»، و «السيرة».
معظم العناوين هي نصوص بحدِّ ذاتها. يذهب حدَّاد في اكتشاف عناوين نصوصه كما يذهب لاكتشاف كنوز من دهشته التي غفل عنها.
كتابات لا تنفصل عن مشروع حدَّاد في نظره إلى الحياة وعناصرها. لا تنفصل عن هجاء عميق لا مباشرة فيه، أو مديح لا تمارس فيه الكتابة تزلّفاً. بعضها فيه ملامح السرْد؛ مدوزنة بالحاسة الأولى لديه: الشعر؛ بعضها كتابات تحتفي بكتابات. عن الأمكنة بعضها، وعن الوجوه والأرواح؛ عن الذين عبروا الحياة وغادروها ومازالوا يسعون فيها ملء أرواحهم التي لا تنطفئ. كتابة فيها احتفاء المكتشف لأكثر من دهشة تكتنز بها، بعضها بين هذا وذاك؛ وللشعر حصته من كل ذلك.
العدد 4593 - السبت 04 أبريل 2015م الموافق 14 جمادى الآخرة 1436هـ