العدد 4592 - الجمعة 03 أبريل 2015م الموافق 13 جمادى الآخرة 1436هـ

المرأة قبل النفط... زهرة حسن علي العصفور

زهرة حسن علي العصفور

قرية ستره، سفاله

تاريخ الميلاد:1927

تاريخ المقابلة:2 ديسمبر 2012

شهادة: رحاب حبيل (نسيبة) وسيد هادي (حفيد)

تعتبر سترة واحدة من أكبر الجزر في البحرين والتي يتجاوز عدد سكانها 80,000 نسمة. وتضم ست قرى هي مهزه، سفاله، واديان، القرية، الخارجية ومركوبان. لم يعد ينطبق على ستره وصف جزيرة كما كان منذ قرون وذلك بعد بناء جسر بينها وبين العاصمة المنامة في الجانب الجنوبي وجسر آخر يربطها بالقرى على الجانب الغربي من معامير، نويدرات وعسكر والذي بنته شركة نفط البحرين في العام 1938 بعد اكتشاف النفط في العام 1932. ولهذا كان من الصعب جدا بالنسبة لي أن اجد امرأة تنعم بصحة جيدة ولدت قبل اكتشاف النفط. وسترة تلك الجزيرة الجميلة بوفرة ينابيعها الطبيعية وبساتينها تحولت إلى منطقة صناعية مما جعلها منطقة ملوثة ولديها اكبر معدل وفيات في البلاد.

محدثتي امرأة مسنة من سترة كانت في يوم من الأيام امرأة مفعمة بالحيوية والنشاط ولكن كما كانت تقول وتردد المثل المعروف «كثر الدق يفك اللحام» أو بعبارة أخرى، «كثر الطرق يفتح اللحام» وكان ذلك وصفاً دقيقا لحياتها. فعلا، فبغض النظر عن مقدار الطاقة التي يهبنا إياها الله عز وجل، تبقى محدودة. فالإنسان يعتبر ضعيف وبالخصوص عندما يرهق نفسه. لم تكن زهرة أكبر من النساء الأخريات اللواتي قابلتهن لهذا البحث ومع ذلك، فقد أجهدت كل طاقاتها. ربما سنحت لي الفرصة لاجتمع بها واكتب عنها لكي أعطي لنفسي وقرائي العديد من الدروس في الحياة. يجب علينا أن نحاول الاستفادة من الطاقات الايجابية في حياتنا بدلا من إنهاكها. البعض منا متأمل جيد والبعض الآخر غير ذلك. وزهرة لم تكن من أولئك المتأملين الجيدين ولكن لديها قصة جديرة بالاهتمام والكتابة.

كنت برفقة رحاب حبيل التي كانت لطيفة ومسلية جداً، أخذتني إلى جزيرة سترة لمقابلة ابنة عم والدها. ذهبنا إلى فيلا بنيت حديثا في قرية سفالة ووجدت هناك امرأة عجوز ترقد على فراش منخفض في القاعة.

لمدة نصف ساعة أو نحو ذلك، اعتقدت أن المقابلة لن تكون ناجحة حيث كان من الواضح جدا أن زهرة لم تكن مريضة جسديا فقط ولكن كانت أيضا تعاني من الاكتئاب. لم تكن مستعدة لإجراء أي حديث فقد تلاشت نصف ذكرياتها. حاولت رحاب قصارى جهدها لجعل زهرة تتحدث وبمساعدة حفيدها سيدهادي الذي انضم إلينا في تلك اللحظات مع ابنها سيدعدنان وزوجته في وقت لاحق، استطعت ان التقط بعض الجوانب لحياة زهرة.

كان حسن العصفور والد زهرة صياد سمك. والدتها فاطمة عباس من أهل النويدرات. كانت طفولتها جيدة نسبيا وهي الوسطى بين أخواتها. لم يكن لديها أشقاء. أخواتها هن مريم، وزينب، وأمينة. توفين جميعهن وكانت هي الوحيدة على قيد الحياة. تذكرت والدها بالخير. توفيت والدتها عندما كانت صغيرة وتكفلت بتربيتها عمتها (شقيقة الأب). أما زوجة والدها فهي خديجة البصري من قرية القرية. لديها أخوان من زوجة والدها الثانية.

تمكنت زهرة من الذهاب إلى المعلم وبالتالي تعلمت قراءة القرآن والقصيد (قراءة الشعر على أهل بيت الرسول). وكان هذا بمثابة حجر الأساس الذي خطته لمستقبل زاهر في حياتها لاحقا. عاشت في بيت بحريني نموذجي مشيد من الجبس وصخور البحر. كان لديهم بئر ليزودهم بالماء للغسل والطهي. كن يذهبن إلى العين كل يوم لغسل الملابس في تلك الفترة بمادة بيضاء تسمى طبل (طين ابيض يستخرج من البحر) يتم الحصول عليها من الأرض. لم تكن كل المنازل مزودة بالمراحيض لذا كان من الطبيعي جدا الاختباء وراء شجرة أو الذهاب إلى البحر لقضاء الحاجة. فهذه الممارسات تعكس التخلف الآن، وقد ترهب الناس وكانت الحياة هكذا في الخمسين عاما المنصرمة فكانت الطبيعة في مكانها. واستحوذت المواد الكيمائية، المصانع، المصافي، ومراكز التسوق على المساحات الخضراء وينابيع المياه.

ذكرت لي زهرة أسماء بعض البساتين وينابيع المياه الطبيعية التي اعتادت الذهاب إليها في شبابها ولم يبق شيء منهم الآن، مثل «بادية صباح»، «بادية جاسم»، «عين مهزة» ومكان معروف في سترة يعرف باسم «البسيتين» مماثل لاسم منطقة في المحرق. ويمكن أن نلاحظ في هذا السياق أن «عين المهزه» من الينابيع الطبيعية المشهورة جدا والتي تستخدم لري عدد من البساتين في حين تمر مياهها من مهزة الى مركوبان وسفالة والتي تتدفق في قنوات واسعة وعميقة وكبيرة إلى الشرق حيث بركة صغيرة تسبح فيها النساء. أخبرتني زهرة أن سفالة مشهورة بمنتجعاتها الصيفية حيث تغادر هي وعائلتها منزلهم أيام الصيف الحار ويذهبون إلى البساتين وينابيع المياه الطبيعية ويبنون أكواخا لأنفسهم (برستجات). تقع مزارع سفالة في الجانب الشرقي بالقرب من شاطئ البحر. وتشتهر ستره أيضا بنخيل الرطب، الفواكه والخضروات حيث «بستان الحوري»، «بستان السبان»، بالاضافه إلى مزارع «أبو العيش» الممتلئة بأشجار الفاكهة الكبيرة مثل الرمان، اللوز، البمبر، البطيخ، الباميه، الباذنجان والطماطم بالإضافة إلى البرسيم (علف الحيوانات).

تزوجت في سن العاشرة وعلى الرغم من فقدانها نصف ذاكرتها إلا أنها من مناصري الزواج المبكر للفتيات. تعيد مراراً وتكرار أن الفتيات في هذه الأيام يتزوجن عندما يكبرن، في سن الثلاثين. والذي بدا لها شيء فظيع جدا. حسنا، ربما لم تتعود المجتمعات في جميع أنحاء العالم على الزواج في سن متأخر ولكن التكنولوجيا والتحديث غيرت مواقف الشعوب وتطلعاتها وعلى مدى خمسين عاما يبدو أن العالم بأسره تحول تحولا مثيرا في الثقافة. بدت زهرة قلقة وهي شهدت بنفسها هذا التحول لكن خلافا لمعظمنا فهي شخصية مخضرمة عاشت القديم والجديد على حد سواء.

كان زوجها يكبرها بسبع أو ثماني سنوات وكان صيادا مثل والدها وابن عمها، اسمه سيدكاظم سيدسلمان. لا تتذكر ما إذا كانت قد أعطيت أي مهر أو كيف كان زفافها. ومع ذلك، فهي تعترف بأنها وزوجها تقاسما قصة حب. وبغض النظر عما إذا كان الرجل يحب زوجته أم لا، إنها تقاليد الرجال الكبار في السن أن يتزوجوا أكثر من زوجة واحدة. تزوج زوجها بامرأة أخرى في وقت لاحق من حياته اسمها فاطمة عبدالنبي العبو. كانت تعيش معها في نفس المنزل ولم يكن بينهم أي خلاف على الإطلاق. عندما سألتها رحاب «هل حصل وان غضبت لزواج زوجك؟» فأجابت: «لماذا أشعر بالغضب؟ هذا حقه طالما يعاملنا بالمثل». كانت رحاب مندهشة مقارنة بالمرأة في هذه الأيام عندما تكتشف أن زوجها سوف يتزوج من أخرى فتغضب بشدة إزاء هذا الوضع على عكس تلك السيدات الحكيمات والمسالمات في ذلك العصر.

انجبت زهرة ابنتها الأولى معصومة ثم بدأت تنجب العديد من الأطفال الذين ماتوا بسبب تردي الرعاية الصحية. وبعد مرور أكثر من اثني عشر عاما ونحو ذلك أنجبت سيدعدنان وسيدمحمد.

اما الزوجة الثانية فقد أنجبت ثلاث بنات هن فاطمة، شريفة وهشمه. توفي زوجها عندما كان عمر سيد عدنان ثلاث سنوات فقط.

من هنا، أخذت زهرة المبادرة. كانت في بداية الثلاثينات من عمرها، نشيطه جدا. في الواقع، يتذكر ابن سيدعدنان سيدهادي والذي ولد في العام 1983م بوضوح جدته التي كانت متواجدة دائما للمساعدة في العديد من المشاريع المقامة للمأتم الذي ورثته عن زوجها.

تقول زهرة «يعيش الناس الآن في وفرة. أما في السابق فقد كان شح في كل شيء. لم يكن هناك الكثير من الطعام للأكل والناس الآن ليست متعاونة كالسابق». بالفعل فرغم التحول الاقتصادي الكبير بعد اكتشاف النفط مع وفرة المال فقد أنتج الجشع لدى البشر. في الماضي كانت العوائل الممتدة المكونة من عشر أو عشرين أسره تقطن في منزل كبير حيث تسكن كل أسرة في غرفة واحدة فقط. أما الآن فإذا سكنت عائلتان معا فستجد الضجيج يعم المكان.

كان زوجها عمدة القرية ويمتلك أول وأشهر مأتم للرجال، والذي تحول فيما بعد للنساء عندما تم بناء مأتم جديد للرجال. مساحته تبلغ نحو 30 * 50 قدما والمعروف باسم مأتم السعدة. كان لديهم قارئة شهيرة تسمى (حباب) والتي توفيت قبل سنوات قليلة، وقد قرأت في المأتم لمدة أربعين عاما. كانت من رأس رمان وزوجها من أهل المنامة. في بادئ الأمر كانت زهرة مسئولة عن إعداد الطعام في المأتم وتعترف بأن الناس من المنامة أفضل في الطهي من أهل سترة. أعجبها الحديث عن الطعام وتذكرت بأنها طهت المچبوس، والمحموص، والبرنجوش وصنع الخبز والحلويات مثل الخبيص والممروس.

تولت إدارة المأتم في وقت لاحق. قال ابنها سيد عدنان «عندما يأتي محرم لا نرى والدتي لمدة عشرة أيام. تختفي تماما من المنزل. إنها تنام في المأتم ولا تأتي إلا يوم الحادي عشر». قضت زهرة سنوات في إدارة المأتم، في بعض الأحيان تأخذ حافلة النقل العام وتذهب إلى المنامة على رحلتين يوميا. كانت تشتري ما يحتاجه المأتم من أدوات وكذلك النعل ومواد وأشياء صغيرة أخرى لبيعها على النساء. وتجمع التبرعات للمأتم ويقدر الدخل بألف وأربعمائة دينار في المناسبات. كانت تذهب مشيا على الأقدام إلى البديع لشراء فروع النخيل لصنع السلال، الحصير والمديد. وتذهب للتلال للحصول على حجارة واستخراج الاثمد (الكحل) منهم وبيعه على الناس.

استرق سيد هادي النظر إلى حياة زهرة «كانت جدتي نشيطة جدا. كنا جميعا نعيش معها في منزل جدي. تأخذ غصن شجرة لتأديب الأطفال بها. لكنها لم تضربنا. تحبنا وتحن علينا بالرغم من انها امرأة صارمة جدا. أتذكرها كطفل، كانت مستقلة في حياتها، تستيقظ في الثالثة صباحاً استعداداً لصلاة الليل وصلاة الفجرثم تجهز شاي الإفطار وتخرج لجلب الخبز. كانت حياتها مليئة بالنشاط إلا أنها بدأت في الآونة الأخيرة تمرض وذلك بعد تعرضها لحادث في الحافلة عند ذهابها إلى المنامة. بدأت صحتها بالتدهور أكثر عندما سقطت في 14 فبراير/ شباط 2011 وكُسر صدرها. كانت تدخن النارجيله لسنوات مما اتعب صدرها وجعله في حاله سيئة للغاية.

لقد عم الظلام فكان علي أن اغادر. ستظل زهرة في ذاكرتي لفترة من الوقت. أدعو لها بحياة مليئة بالسلام وأشيد بانجازاتها. صحيح أن هذه الحياة تعطي ولكنها تأخذ في نفس الوقت وليس هناك شيء بالمجان.

في وقت لاحق من هذه المقابلة أخبرتني رحاب بأن زهرة فارقت الحياة وكان ذلك اثر سكتة قلبية في 13 يناير/ كانون الثاني 2014. كنت حقا محظوظه بأني استطعت أن أسجل سيرة حياتها ومشوارها الطويل. رحمها الله واسكنها فسيح جناته.

العدد 4592 - الجمعة 03 أبريل 2015م الموافق 13 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 6:03 ص

      رحمك الله

      رحمك الله يا ام السادة لقد كنتِ أما للجميع.. وهنيئا لكِ خدمة أهل البيت (ع) وحشرك مع محمد وآل محمد

    • زائر 5 | 5:48 ص

      الله يرحمها

      الى جنات الخلد الله يرحمها خادمه الامام الحسين عليه السلام

    • زائر 4 | 3:02 ص

      ذكريات

      اللهريرحمش يالخاله من نروح الماتم ونتحرك مني مناك تقوم لنا بعصايه وتلحقناا… ونشييل عليه

    • زائر 3 | 2:42 ص

      ..

      رحمش الله يا خالتي العزيزه .. خادمة الامام الحسين عليه السلام ..

    • زائر 2 | 2:05 ص

      نساء العز

      رحمها الله كانت خادمة للإمام الحسين امرأه قويه و ذات شخصيه رائعه معروفه على مستوى سترة أيام جميله في زمن الطيبين

اقرأ ايضاً