العدد 4592 - الجمعة 03 أبريل 2015م الموافق 13 جمادى الآخرة 1436هـ

آثار القرى المهجورة في موقع عين «أم السجور»

لا يختلف الحضري عن القبلي، فيما يتعلق بعصبية الانتساب؛ فالقبلي يتعصب لقبيلته، ويربط اسمه بها، ويفتخر بانتسابه لها، وبالمثل يفعل الحضري، الذي يرتبط بالمكان الذي يعيش فيه، ويرتبط أحياناً أسمه بهذا المكان، وربما يتعصب بالانتساب له. إنها العصبية المكانية، والتي لا تختلف كثيراً عن العصبية القبلية، إنه شعور الانتماء المناطقي أو القروي. لقد أثر هذا الشعور المناطقي على عملية توثيق التاريخ بصورة علمية دقيقة، وقد نتج عن ذلك تاريخ مستقل لكل قرية أو منطقة. هذا النوع من التقوقع الذي ذكره العوامي بأنه تقوقع «داخل إطار شرنقي ضيق إن تجاوز (الحارة) لم يتخطَ القرية، وما يؤسف له أشدَّ الأسف أن يتسرب شعور (الشرنقة) هذا إلى طبقة المثقفين ممن يفترض تمتعهم بالوعي والبصيرة، والحس الاستشرافي، فيدركوا مخاطر سيادة مشاعر العزلة والتجزئة خصوصاً في هذا العصر» (العوامي 1996, الواحة العدد الخامس).

فهذا الشعور يسمح بتداخل العواطف في عملية توثيق التاريخ، والذي يؤدي لتداخل الروايات الشفهية، الغير محققة، والتي، ربما، تتعارض مع الحقائق التاريخية. تلك هي أهم مشكلة تواجه الباحث الذي يحاول توثيق التاريخ بمنهجية علمية، حيث يصطدم مع تلك الروايات التي تم ترسيخها في عقول العامة.

موقع عين أم السجور، هو أحد تلك المواقع الأثرية الذي مازال يحيط به الغموض؛ حيث أننا لا نمتلك إلا جزءاً بسيطاً من الحقائق حول هذا الموقع، على الرغم من تعاقب بعثات التنقيب الآثارية فيه، بدءاً بالبعثة الدنماركية ثم البحرينية والبريطانية، وانتهاءاً بالبعثة اليابانية. ومن جهة أخرى، ارتبط الموقع بعددٍ من الروايات التي تحتفظ بها الذاكرة الشعبية، والتي لا نعلم مدى دقة بعضها.

عين أم السجور

زعمت العامة أن «عين أم السجور» كانت من أعظم عيون البحرين في السابق، كما زعموا وجود عددٍ من القنوات المائية التحت أرضية المرتبطة بها (Andersen and Hojlund 2003). وفي بعض الروايات، زعم البعض، وجود قنوات تمتد من هذه العين وتصل إلى مناطق بعيدة ومنها ما يصل حتى منطقة راس رمان. هذه الروايات بها شيء من الصحة؛ فقد عرفت هذه العين باسم «أم السجور» لكثرة السجور أي القنوات الفرعية التي تخرج منها. والسجور، ومفردها سجر، هي مصطلح معروف في وسط الجزيرة العربية وتعني «السواقي المتفرعة من قناة العين الرئيسية وهي أصغر منها» (المشوح 2009, ص 56). وهي لفظة واردة في كتب اللغة, جاء في معجم تاج العروس (مادة سجر): «الأَسْجَرُ: الغَدِيرُ الحُرُّ الطِّينِ ... وتَسْجِيرُ المَاءِ : تَفْجِيرُه حَيثُ يريد».

إن وصف العين وبقاء هذا الاسم، أي أم السجور، يدل على أن صورة العين راسخة في الذاكرة الشعبية، وأنها كانت تستخدم حتى عهد ليس بالبعيد، ربما حتى بداية القرن العشرين. هذا، ويؤكد تقرير البعثة اليابانية الذي نقبت في موقع عين أم السجور، أن بعض كبار السن تحدثوا عن استعمال العين، ربما سمعوا ذلك ممن سبقهم، فإن كان كذلك، فهذا يضعف من رواية ردم العين في الحقبة الإسلامية المبكرة والتي تناولناها في حلقة سابقة (Japanese Archeological Mission 1995). إلا أننا لم نعثر على وصف لهذه العين، والوصف الوحيد الذي نمتلكه هو وصف بعثة التنقيب الدنماركية الذي نشره Bibby في العام 1956م, وترجمه للعربية محمد الخزاعي (الخزاعي، بدون تاريخ، ص 99 - 105). وجاء فيه وصف العين كالتالي:

«على أقل من نصف ميل إلى الشرق من القرية الحالية، على حافة بساتين النخيل، توجد حفرة عجيبة، محاطة بركام عالية من الرمال التي تترك انطباعاً بأنها استخرجت من الحفرة وكومت حولها. وتتخذ الحفرة شكلاً بيضاوياً تبلغ أبعاده 40* 70 متراً. ويصل قاع الحفرة على عمق ثلاثة أمتار... يطلق العرب على هذه الحفرة عين أم السجور، وليس لديهم أدنى شك بأنها كانت نبع ماء فيما مضى» (Bibby 1956).

البئر المقدسة

لقد عثر في هذا المنخفض الذي يمثل العين على بئرين ينتهيان في قاعهما بينابيع للمياه العذبة، أحدهما اكتشفته البعثة الدنماركية في منتصف الخمسينيات والآخر اكتشفته البعثة اليابانية في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم. القنوات التي ترتبط بكلا البئرين معقدة الوصف، أحد هذه الآبار يوجد في منحدر الزاوية الجنوبية الشرقية للحفرة، التي تمثل العين الجافة، وهناك ممر يقود لهذه البئر، يتكون الممر من صفين متوازيين من الجدران ذات سطح ممسوح بالملاط على كلا جانبيه. وتبلغ المسافة بين الجدارين قرابة متر واحد، بينما يبلغ عرض كل جدار 80 سم. ويمتد الجداران بطول أربعة أمتار في اتجاه الشرق ومن ثم ينحرفان على شكل مستطيل نحو الجنوب ويستمران متوازيان ويمتدان لمسافة خمسة أمتار تقريباً، وينتهيان في غرفة صغيرة مربعة الشكل تقريباً وطول ضلعها متر ونصف المتر تقريباً. أما السطح المحصور بين الجدارين فهو عبارة عن منحدر يتحول في الممر المتجه جنوباً إلى سلم يفضي إلى أسفل الغرفة. وقد تبين أن أرضية الغرفة كانت تتكون من صخرة واحدة مربعة وبها ثقب مستدير، وقد ثبت أن هذه الصخرة هي غطاء البئر، ومن خلال ثقب هذا الغطاء يتدفق الماء من ينبوع للمياه العذبة (Bibby 1956).

وقد عثرت البعثة الدنماركية داخل هذا البئر على آثار تعود للحقبة الدلمونية، كما استنتجت البعثة الدنماركية وجود معبد دلموني مقام على هذه العين (Bibby 1956). هذا الوصف يؤكد على هدف بناء المعابد بالقرب من العيون الطبيعية؛ حيث يمثل المعبد، والكهنة التي تعمل فيه، منطقة تحكم أو بمثابة الحكومة المركزية للمنطقة، فيقوم بتوزيع المياه على الأراضي الزراعية المختلفة (Hojlund 1989). هذا النموذج، ذاته، موجود في معابد باربار، وتم استنساخه لبناء هذا المعبد على هذه العين.

قرية دلمونية وأخرى إسلامية

عثرت البعثة اليابانية أسفل التلال التي تحيط بمنخفض عين أم السجور على آثار لعدة غرف، وفي بعض الغرف كان يوجد تنور، وكذلك، عثر على لقى آثارية تعود للحقب الدلمونية المبكرة، مما يدل على وجود قرية نشأت في هذا الموقع قبل العام 2000 ق.م (Konishi et. al. 1995). يذكر، أن نتائج البعثة البريطانية في موقع عين أم السجور قد حددت وجود استيطان في هذا الموقع، وإن هذا الاستيطان، بحسب اللقى التي عثر عليها، بدأ قبل العام 2000 ق. م.، واستمر حتى الحقبة البابلية الجديدة أي ما بين الأعوام 700 - 550 ق. م. (McNicoll and Roaf, n.d.).

في واقع الأمر، فإن المنطقة المجاورة لشارع البديع والتي تقع ما بين قريتي الدراز وباربار كانت مغطاة بآلاف القطع من الفخار، مما يدل على أن هذه المنطقة كانت في السابق مدينة كبيرة (Bibby 1956). ويبدو أن هذه المدينة/القرية كانت تقع بين ثلاث قرى، باربار والدراز والمرخ، وأن جزءاً كبيراً من آثار هذه المدينة/القرية قد دفن تحت شارع البديع، عندما تم رصفه في الثلاثينيات من القرن المنصرم. أما هذه المدينة/القرية فإنها تعود للحقب الدلمونية القديمة، وقد هجرت في فترة لاحقة قرابة العام 550 ق. م. إلا أن المنطقة عادت لتسكن من جديد قرابة القرن التاسع/العاشر الميلادي؛ حيث تشير نتائج تحليل عددٍ من قطع الفخار، التي عثر عليها في هذه المنطقة، أنها تعود لهذه الحقبة (Larsen 1983, p. 85).

ويبدو أن هذه القرية الإسلامية، التي أنشأت في موقع عين أم السجور، قد هُجرت في القرن العاشر الميلادي. وفي قرابة القرن الثالث عشر الميلادي، ظهرت قرية أخرى تقع شرق هذا الموقع. وهي قرية، يرجح البعض، أنها تحولت لسوق مركزية. هي قرية لم يبقَ منها الآن إلا الأطلال، وبقايا من الروايات تحتفظ بها الذاكرة الشعبية. تلك قصة أخرى سوف نتناولها بالتفصيل في الحلقات القادمة.

العدد 4592 - الجمعة 03 أبريل 2015م الموافق 13 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 5:38 ص

      جزاكم احسنتم اااه احسن الجزاء

      جزاكم الله احسن الجزاء مسكورين

اقرأ ايضاً