التاريخ لا يقبل السكون، وهذه المقولة تنسحب على كل الأشياء، بما في ذلك الأفكار. فليس هناك في الأفكار ما هو مطلق، فشأنها أيضاً شأن كل ما هو في الحياة، من حيث خضوعها لقانون النسبية. إنها تتطور وتتجدد وفق المتغيرات التي تعايشها، لكن الأفكار أبداً لا تموت.
في المقال السابق، قدّمنا ما هو أقرب إلى التحقيب، تابعنا من خلاله الأحداث التي حكمت تطور المشروع النهضوي. وقد انتهينا إلى مطالع هذا القرن، حين اضطلع «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت، بمتابعة تطوير هذا المشروع، بما يتسق مع التحولات الكبرى، التي حدثت في الخريطة السياسية الدولية، وكان لها تأثيراتها المباشرة في الأمة العربية.
كان التفكير في صياغة جديدة للمشروع النهضوي العربي، من قبل «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت، قد بدأ منذ وقت مبكر، مباشرة بعد تأسيس المركز. وفي العام 1988 صدر عن المركز التقرير النهائي لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، تحت عنوان «مستقبل الأمة العربية التحديات والخيارات»، وأشرف على التقرير رئيس المركز خير الدين حسيب.
ناقش التقرير ضرورات وأبعاد استشراف المستقبل العربي، ماضياً وحاضراً وعالماً متغيراً. واستلهم الدروس من إرث الماضي. وركّز على التراث العربي الإسلامي، والتراث الاجتماعي، وآليات التغيير في حينه. وتناول بالتحليل الهجمة الاستعمارية ونشوء الدولة القطرية، وطبيعة التكوينات الاجتماعية العربية في ظل التجزئة. كما ناقش واقع الأمة وممكناتها من موارد بشرية وطبيعية، وثروات معدنية. واستشرف محدودية الآفاق واحتمالات تفتيت البلدان العربية، ودور القوى الدولية والإقليمية، والهجمة الصهيونية في استمرار واقع التجزئة. وقد مهد هذا التقرير للندوة الفكرية الرئيسية، التي عقدها المركز، بعد اثني عشر عاماً من صدوره، لصياغة المشروع النهضوي العربي، في صيغته الجديدة.
شارك في الندوة خمسة وتسعون مفكراً عربياً، وعقدت بمدينة فاس في المغرب، وحظيت برعاية العاهل المغربي الملك محمد السادس. وانبثق عن الندوة مشروع نهضوي جديد، زاوج بين العدل والحرية، باعتبارهما جناحين لا غنى عنهما لمشروع النهضة.
وصدرت بحوث تلك الندوة والتعقيبات التي قدمت والمناقشات التي أجريت حولها في كتاب صدر عن المركز حمل عنوان «نحو مشروع حضاري نهضوي عربي»، ضم ثلاثة عشر فصلاً. وتصدر هذه البحوث تعريف بالمشروع تضمن قراءة تاريخية له، ولتجاربه. وقدّم البحث المؤرخ العربي الراحل عبدالعزيز الدوري.
تناول الكتاب أهداف المشروع النهضوي في صيغته المعاصرة، وحدّدها بستة أهداف هي الوحدة العربية والديمقراطية والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والتجدد الحضاري. وجاء تحديد هذه الأهداف من قبل الندوة، بعد قراءة مستفيضة للبيئتين العالمية والإقليمية، وتأثيراتهما في الواقع العربي.
وكان لابد بعد إنجاز صياغة أهداف المشروع النهضوي العربي، من مناقشة آليات تحقيقه. وفي هذا السياق تقدم عبدالإله بلقزيز وعصام نعمان بورقتين، ناقشتا نظام الأولويات في هذا المشروع. وكتب علي نصار عن دعائمه الاجتماعية والسياسية، كما كتب معن بشور ورقة تناولت طريقة تجسيد هذا المشروع.
منذ صدر المشروع الحضاري النهضوي، في مطلع هذا القرن، وحتى تاريخه سالت مياه كثيرة. فقد احتل العراق، وخطفت الدولة الوطنية العراقية، وحدثت انهيارات كبرى في جدار الأمن القومي العربي. لكن هذا الاحتلال كان عقب أخيل، فقد أنهك الاقتصاد الأميركي بفعل احتلال أفغانستان والعراق. وكانت مؤشرات التمرد على الهيمنة الأوروبية، في مجلس الأمن الدولي قد بدأت من داخل أوروبا، حين هدّدت الحكومة الفرنسية باستخدام حق النقض، في حالة عرض قرار احتلال العراق على مجلس الأمن. وتبع ذلك انبثاق الصين وروسيا كقوتين دولتين، قادرتين على مواجهة الهيمنة الأميركية، على الصعيد الدولي.
في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 اندلعت الثورة التونسية، وتمكنت من إزاحة الرئيس زين العابدين عن السلطة، وكانت المحطة الأولى فيما عُرف لاحقاً بالربيع العربي، لتتبعها انتفاضة في مصر أطاحت الرئيس حسني مبارك، ولتتبعها انتفاضة في ليبيا وتشكيل تحالف دولي لإسقاط نظام القذافي، وأحداث أخرى مماثلة في اليمن وسورية.
ورغم الطابع الشعبي لهذه الانتفاضات، التي اعتبرت في حينه رفضاً للاستبداد والفساد، فإن معظم الشعارات التي طرحها المشروع النهضوي، في صيغته الجديدة، باستثناء شعار الديمقراطية، لم تجد لها صدى في الساحات والميادين التي شهدت تظاهرات التغيير.
غابت الوحدة العربية والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والتجدد الحضاري عن الشعارات التي رفعت في الميادين. وحتى مطلب الديمقراطية، تحول بفعل الطابع العفوي للحركات الاحتجاجية العربية، واختطاف جماعة الإخوان المسلمين لهذا الحراك، إلى مطالب تفتيتية للكيانات الوطنية، وأصبحت لغة الفيدراليات هي السائدة في ليبيا واليمن وسورية، والقائمة مفتوحة، على المزيد من الانهيارات.
وفي ظل غياب البرامج السياسية، والحركات المدنية، تغوّلت منظمات الإرهاب، وأصبح دورها جلياً في معظم البلدان العربية التي شملها التغيير، من دون استثناء. أصبحت المطالب في هذه المرحلة، تتركز على استعادة الأمن والحفاظ على الكيانات الوطنية، في صورتها التي سبقت اندلاع الحركات الاحتجاجية، وبقيت هموم الناس في الحصول على العمل وتأمين السكن والعلاج والتعليم قائمة من دون حل.
تتجه معظم البلدان العربية نحو واقع مأساوي وصعب، يصبح فيه الوسط بالسلم الاجتماعي خاوياً، فلا يبقى سوى الغنى الفاحش والفقر المدقع. وهي حالة إن ترسخت فإنها تنبئ بجلل عظيم، حيث لن يكون هناك بانتهاء حضور الطبقة المتوسطة صانعة الإبداع والفكر، مجالٌ لتصحيح في مسار، أو تجديد في فكر.
سيكون على المفكرين والمثقفين ليس فقط إعادة صياغة المشروع النهضوي العربي، بما يؤمن وقع حالة الانهيار، والانطلاق مجدداً، على ضوء التحولات العالمية والإقليمية الجديدة، وهي تحولات تحمل تباشير تغيير في موازين القوى، تكون في صالح هذا المشروع إن تم اقتناصها، بل ينبغي العمل على تغيير هذا الواقع، من خلال التركيز على المشاريع التنموية، وتطوير آليات العمل الاقتصادي، بما يضيق الفجوة بين الغني والفقير. ويبقى المشروع النهضوي العربي بحاجة إلى المزيد من التأصيل والتحليل.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4591 - الخميس 02 أبريل 2015م الموافق 12 جمادى الآخرة 1436هـ