السؤال المعرفي من أشد الأسئلة إلحاحا وتداولا في التفكير الديني المعاصر في إيران. وهوية المعرفة والأبعاد المحلية والقومية والإقليمية الملازمة لها، وما يكمن خلف العلم من رؤية ميتافيزيقية خاصة، من أبرز مشاغل المفكرين الإيرانيين اليوم. إذ نجد كتاباتهم تتحدّث بوضوح عن وصف العلم بالانحياز، وكيف يتحيّز العلم إلى الأقوياء وأصحاب الثروة، أو كيف ينحاز إلى اتجاه سياسي أو ميتافيزيقي معيّن، وأن ذلك يعنى عدم إمكان تأسيس علم دون رؤية ميتافيزيقية محددة، ولا يمكن تأسيس علم محايد. وأنّ العلوم الإنسانية لا يمكن سلخها عن محيطها الحضاري الذي نشأت في فضائه الخاص، كما أنه ليس بوسعنا نفي تأثير العوامل الأيديولوجية والثقافية والتاريخية والجغرافية في صيرورتها وتشكلها، وبالتالي تصطبغ هذه العلوم بصبغة معيّنة تغدو فيها متحيّزة وليست محايدة، ذلك أنها تتلون بلون المحيط، وما يسوده من رؤية كونية، وفهم وضعي للعالم والإنسان والحياة.وبحسب تعبير عبدالوهاب المسيري؛ فإنّ علمانية العلوم التي ظهرت في القرن السابع عشر عملت على فصل العلوم عن المنظومة القيمية، ونزع القداسة عن كل شيء، وسحب الأشياء من عالم الإنسان ووضعها في عالم الأشياء، ثم انتهت بسحب الإنسان من عالم الإنسان ووضعه في عالم الأشياء، وبذلك يسود منطق الأشياء.
وليس بوسعنا في هذه العجالة تقديم قراءة شاملة تستوعب آراء المفكرين والباحثين والدارسين الإيرانيين في القرن العشرين ومواقفهم حيال هذه الإشكالية البالغة التعقيد والتنوع، غير أن ذلك لا يمنعنا من الإشارة بإيجاز إلى مجموعة من المفكرين الذين كشفوا عن تحيّزات المعرفة الغربية، ونادوا بضرورة صوغ علوم ومعارف تستلهم روح ميراثنا والعناصر الحيّة في ثقافتنا. وسنشير إلى آراء أحمد فرديد وجلال آل أحمد وحسين نصر وعلي شريعتي.
يعتبر أحمد فرديد (1912-1994) في طليعة المحذرين من التمركّز والتحيّز في المعرفة والعلوم الغربية. وكان فرديد شخصية خلافية ملتبسة، ويوصف بأنه مفكر عميق، لكنه صامت، وإذا تكلّم فهو مبهم، ولم يعرف عنه تدوين آرائه أو كتابتها ونشرها، ولذلك يعرف بـ «الفيلسوف الشفاهي». وعلى رغم أنه أقل المفكّرين الإيرانيين شهرة، وربما لم يسمع به أحد خارج إيران، غير أن ّالباحث المعروف داريوش آشوري عبّر عنه بأنه «أوّل فيلسوف في التاريخ الإيراني المعاصر»، وقد كان لأحمد فرديد دور مميز في تعليم الفلسفة الألمانية في إيران، وخصوصا آراء مارتن هايدغر، وعمل على تشغيل بعض مصطلحاته ومقولاته في المجال التداولي الفارسي، وعرف عنه تطبيقاته لآراء هايدغر في دراسة ونقد وتحليل العلم والحضارة الغربية، وآثارها التدميرية خارج محيطها الخاص، فمثلما يعتقد هايدغر بأن « كلّ حقبة من حقب التاريخ تختص بسيادة حقيقة معيّنة تطغى على بقية الحقائق، فيما تقذف بما سواها إلى الهامش» يرى فرديد بأن «الغربيين أضاعوا الله، واستبدلوه بإله آخر، وهو النفس المادية، أو النفس الأمارة بالسوء». كما يؤكد أن للبشر ثلاثة أبعاد: الأوّل علمي، والثاني فلسفي، والثالث معنوي، ومع أنّ «الأوّل والثاني احتلا مساحة واسعة من السنن الفكرية الغربية، لكن الثالث ظل غائبا وباهتا بشكل فاضح». ولذلك يحذر فرديد من مخاطر شيوع حضارة الغرب في عالمنا ويدعو إلى التحرر من كافة أشكال التغريب، وتجاوز كل مظاهره، من خلال اكتشاف ذات الغرب، أي أنْ نكون غربيين، لا بمعنى الاغتراب عن الذات، وإنما بمعنى المعرفة الدقيقة بالغرب، والنفوذ إلى كنه الفلسفة والانطولوجيا الغربية؛ لأنّ معرفة الآخر شرط لازم لمعرفة الذات.
ويقدّم فرديد تأويلا مشبعا برؤيا عرفانية للتراث الشرقي، وطالما صرح في محاضراته بأن الله هو الأصل والأساس بالنسبة إليه، ولكنه لا يقصد الله بمعنى واجب الوجود لدى الفلاسفة، بل هو بمعنى الإله الحي، إله الأمس واليوم والغد، إله محمد (ص)، وإله المهدى الموعود، وأنّ منبع فكرنا يعود إلى تجلى الله دون الحجاب الظلماني والنوراني على الذات البشرية. وكان يعتقد أن الفكر الشرقي الإيراني والهندي والمصري أقرب إلى الحقيقة من الفكر الغربي، لكن مع ذلك كان فكرا محجوبا. وظل يكرر بأنه في العصر الحديث تجاهل الإنسان الساحة القدسية، وفقط باكتشاف هذه الساحة يجد الفكر الحقيقي معنى له. وأشار غير مرة إلى غروب الغرب، وأن المستقبل لنا، لأن الله معنا. ويحاول فرديد استعارة مفاهيم هايدغر ويلونها برؤية عرفانية، فمثلا يذهب إلى أن التكنولوجيا بمثابة الحجاب الأكبر والأصغر لحقيقة الأمس والغد، وحين يسود الحجاب تختفي الحقيقة الإلهية. وتبعا للمتصوفة والعرفاء فقد استأثرت قضية الأسماء والصفات الإلهية باهتمام فرديد، وفي إطارها صاغ ما اصطلح عليه بـ «علم الأسماء التاريخي» والذي حاول أن يصوغ فلسفة خاصة للتاريخ في ضوئه، فهو يعتقد بأنه مثلما يكون التاريخ في حال صيرورة وتغير وتحوّل أبدى، كذلك هي الأسماء تتغيّر كما يتغيّر التاريخ، وفي كل مرحلة يتجلّى أحد الأسماء الإلهية، فالثورة مثلا لا تتحقق إلاّ بتجلي الاسم الإلهي المعبّر عنها، وبغيابه تغرب وتختفي. وفي عصرنا الذي طغت فيه الثقافة الغربية، فقد غربت الحقيقة الإلهية، واستحال الاسم الإلهي إلى الطاغوت، وأن الله اختفي وراء الإنسان، بمعنى أنّ الإنسان طغى واستكبر، وأخذ الطاغوت محل الله، فيما رحل الله عن التاريخ، وهذه هي مرحلة غياب الله أو غروب الحقيقة الإلهية.
ويحلو لأحمد فرديد أنْ يعيد إنتاج هايدغر ويصوغ مفاهيمه بصيغة تحاكى مقولات العرفاء والمتصوفة، ويسقط عليها نزعة غنوصية شرقية لا صلة لها بها. ذلك أنّ هايدغر لم يتأثر بأفكار هؤلاء العرفاء، ولم يذكر الشرق الإسلامي في آثاره، وهو يعد الأمر المقدّس خارجا عن الأديان التوحيدية وغيرها، وتمحور اهتمامه بميراث الحضارة الغربية الإغريقي، التي كان المقدّس فيها يشمل آلهة متعددة، وليس الله الواحد الأحد في الإسلام.
ويندد فرديد بالنزعة الإنسانية الغربية، باعتبار أنّ مصيرها هو «الإنسان المكتفي بذاته».ويدعو إلى نمط من العلوم والمعارف المعنوية، التي لا تخلو من الباطنية الإلهية، أمّا الفلسفة اليونانية فقد اعتبر ظهورها بمثابة بزوغ قمر الواقعية وغروب شمس الحقيقة، فنجم عنها بالتالي اختفاء الشرق، وهو «لباب الكتب السماوية» والوحي الإلهي خلف حجب الغرب.
لقد أمست مفاهيم وآراء فرديد الغامضة، والتي لم يدونها وينشرها في حياته، أحد أبرز عناوين الضجة في الفكر الإيراني المعاصر، ففي الوقت الذي يتبناها المحافظون ويحرصون على نشرها وتعميمها والتثقيف عليها والدفاع عن صاحبها، يتهكم عليها ويسخر منها نخبة من الباحثين من زملاء فرديد وغيرهم، ويعدون دعوته إلى ما يصطلح عليه علم الأسماء التاريخي لا تعدو إلا أنْ تكون اقتباسا ملفقا لما أورده محيي الدين ابن عربي في كتابه فصوص الحكم، من الظهور التاريخي الزماني لأسماء الله في عالم الشهادة. وعبر دمج هذا الاقتباس مع شيء من مفاهيم هيغل في فلسفة التاريخ، ومفهوم الصورة والمادة الأرسطي، يعمل فرديد على خلط وتركيب عدة مفاهيم متناشزة، ويصوغها بأسلوب مبهم مدعيا أنها تمثل رؤيا بديلة لفلسفة التاريخ.
ويحلل احد الدارسين القريبين من فرديد دعوته للعودة إلى الثقافة الأصيلة الشرقية، وضرورة إيقاظ الروح المعنوية الشرقية، بأنها تستبطن مسعى سياسي لتأمين غطاء أيديولوجي للاستبداد والأنظمة الشمولية الشرقية،وخصوصا انه لم يكن معارضا لنظام الشاه، وسرعان ما انخرط في دعم النظام الجديد بعد الثورة.
وعلى رغم من كل المراجعات النقدية والطعون في آراء فرديد ومواقفه، غير أنّ بعض أفكاره والمصطلحات التي نحتها اكتسبت أهمية بالغة بعد اشتهارها في التفكير الديني المعاصر في إيران، وتشغيلها في المجال التداولي الفارسي.فمثلا انتخب جلال آل احمد (1923- 1969) مصطلح «غرب زدكي» الذي صاغه فرديد، عنوانا لكتابه الذائع الصيت، والذي أضحى من أهم النصوص الاحتجاجية السجالية المدونة بالفارسية في عقد الستينات.
والمعروف عن جلال آل احمد أن اتسم بمزاج حاد، قلق، مضطرب، متطرف، يكتنفه تطلع وطموح متوثب، وجدية، وحيوية، وضراوة، وحساسية مرهفة. وطبعت وعيه هواجس أضرابه في عالمنا، هذه الهواجس التي كان يفجرها على الدوام، انشطار وعيهم حيال رهانات الهوية والماضي من جهة، والعصر وتحدياته من جهة أخرى، مضافا إلى الاستفهامات الملتبسة للنهضة والتحديث، وجدل التراث والوافد، وسطوة التكنولوجيا الغربية، وتغلغلها في المجالات كافة، وإزاحتها لمكونات الاجتماع التقليدي، وقيمه الموروثة، واستبدالها بالتدريج بقيم، تحكي روح الحضارة الغربية، وتجسّد مفاهيم ومقولات، تخترق بنية هذه المجتمعات، وتسود في حياتها على شكل ظواهر حضارية وثقافية واجتماعية واقتصادية.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 2492 - الخميس 02 يوليو 2009م الموافق 09 رجب 1430هـ