يقال إن أحد الحكام القدامى كان يسير ليلاً فاصطدم برجلٍ فعذره لشدة الظلام، ثم أصدر الحاكم أمراً بأن يسير كل شخصٍ ومعه مصباح في يده كي لا يصطدم بأحد.
في مساء اليوم التالي خرج الحاكم واصطدم بالشخص نفسه، فنهره قائلاً: ألم آمرك بأن تحمل مصباحاً؟ فقال الرجل: هو معي. استغرب الحاكم وقال: لكنه خالٍ من الشمع! فقال الرجل: أمرتنا أن نحمل بأيدينا مصابيح ولم تأمرنا بأن نزوّدها بالشمع! فأصدر الحاكم حين عاد إلى قصره أمراً بتزويد المصابيح بالشمع.
وفى اليوم الثالث اصطدم الحاكم بالشخص نفسه، فقال له: ألم آمرك بحمل المصباح وبداخله الشمع؟ قال هو كذلك، ولكنك لم تأمر بإشعال الشمع! وعندها أصدر الحاكم أمراً بتعيين هذا الشخص لصياغة قوانين المملكة، بعد أن قال له: عليك يا سيدي أن توضّح في القوانين كل التفاصيل كي لا يتحايل عليها أحد، وكي لا يقع أحدٌ في الحرج لعدم فهمه كل التفاصيل.
قد تبدو هذه الحكاية خياليةً في شخوصها وأحداثها والصدف المتكرّرة فيها، لكن فحواها هو الأهم؛ إذ كثيراً ما نطلب من الآخرين فهمنا وتلبية طلباتنا ورغباتنا من غير أن نطلبها بالشكل الذي يمكّنهم من فهمها تماماً.
نفكّر في أمرٍ ما بكل تفاصيله وحيثياته، فيُخيّل إلينا أننا حين نتحدث بها سطحياً سيفهمها غيرنا كما فهمناها، أو إننا ننتظر من الآخرين تلبية مطالبنا من غير أن نبوح بها لأننا نجدها بديهية.
كثيرٌ من الخلافات تحدث بين أفراد الأسرة الواحدة لهذا السبب، وهو أن أحداً ما فكّر بأمر وتوهّم أن غيره يشعر به. أبناءٌ يكتبون ويشكون دائماً من عدم فهم آبائهم وأمهاتهم لهم. زوجات يشكين عدم مبادرة أزواجهن في شراء حاجة مادية أو تلبية حاجة معنوية. أزواج يتحدثون عن نقص يطال حياتهم الزوجية. آباء يتحدثون عن ابتعاد أبنائهم عنهم... وغيرها من المشكلات التي نراها ونسمع عنها دائماً ويكون السبب هو أن أحداً لم يصرّح تماماً بما بداخله.
وتتكرر المشكلة ذاتها على مستوى الأعمال أيضاً؛ فكثير من المدراء والمسئولين يتوقعون أن يفهمهم مرؤوسوهم وينفذون كل طلباتهم من غير إعطاء تفاصيل لهذه الطلبات، وهو ما ينتج عنه صدود للعمال والموظفين تجاه مواقع أعمالهم، وقد يتحوّل الأمر إلى كره للمسئولين عنهم ولأعمالهم أيضاً.
لو أننا نقول ما بداخلنا بكل صفاء ووضوح، من غير الخوف من الآخرين ومن غير توقع ما هو أكثر من إمكاناتهم، لو أننا نبذل جهداً في توضيح احتياجاتنا كما نبذله حين نعنّف غيرنا على عدم فهمه لنا، لوفّرنا الكثير من الوقت والجهد والغضب.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4587 - الأحد 29 مارس 2015م الموافق 08 جمادى الآخرة 1436هـ
نعم صدقت
ما أجمل الوضوح حينما يغلف أعمالنا فليس من المتوقع أن الجميع يقرأ ما بداخلنا كما كتبناه
>>>
مبدعة
مقال شيق لكاتبة مبدعة
مقال جميل جدا كعادتك ايها الكاتبة المبدعة, لغة الحوار والتفاهم لاجل الوصول لحل تختلف عن لغة الحوار بغرض تحقيق (النصر العسكري) على الطرف الاخر!!!