العدد 4578 - الجمعة 20 مارس 2015م الموافق 29 جمادى الأولى 1436هـ

ديناميكية تكوُّن القرى في البحرين

أثارت الحلقات السابقة التي نشرناها من سلسلة تاريخ القرى في البحرين، العديد من التساؤلات؛ بسبب أن جزءاً مما تم نشره يعتبر مادة جديدة لم تنشر من قبل للعامة، وهي معلومات تتعارض مع مسلمات تم ترسيخها في عقول العامة، وأخذت تتسرب وتنتشر على نطاق واسع بسبب وسائل التواصل الاجتماعي. وبسبب الركون لهذه الوسائل، وكأنها أصبحت مرجعاً أساسياً عند البعض، غابت العديد من الحقائق التاريخية عن عامة الناس. وهنا نجد أنفسنا نضطر للتوسع في مفاهيم علمية كثيرة؛ وذلك في سبيل تقديم الحجج العلمية التي تدعم الحقائق والنظريات التي نسوقها. أهم هذه التساؤلات، متى بدأ تكون القرى الحالية في البحرين؟ ما سبب وجود اختلافات لهجية بين القرى؟.

يلاحظ وجود تنوع في الثقافة واللهجات بين القرى، فهل هذه القرى نشأت من جماعة واحدة أم من جماعات غير متجانسة؟. بمعنى، هل أن الجماعات التي كونت القرى الحالية كانت مجرد قبائل متفرقة تعايشت على أرض واحدة، وعلى مدى السنوات اللاحقة حدث استيطان لقبائل وجماعات أخرى ونتج عن ذلك هذه القرى؟، أم أن هذه الجماعات كانت في الأصل عبارة عن كتلة واحدة تفرعت منها مجموعات فرعية وأصبحت كل مجموعة فرعية نواة لتكوين جماعة جديدة، ثم تلا ذلك استيطان لقبائل وجماعات أخرى منها من خالط الجماعات القديمة وتزاوج منها ومنها من فضل الانعزال؟. نحن نرجح أن غالبية القرى القديمة تكونت من جماعة عرقية واحدة. بالإضافة لجماعات أخرى استقرت في البحرين وأسست لها مناطق سكنى أخرى. وحديثنا هنا ليس عن الجماعات الأخيرة، بل الجماعة التي نشأت عنها غالبية القرى في البحرين والتي لها قواسم ثقافية مشتركة، وكذلك صفات جينية ولغوية مشتركة. ويمكن تفسير ديناميكية نشأة القرى من هذه المجموعة من السكان، وكذلك حدوث التجانس والتباين بين أفراد هذه المجموعة عن طريق مفهومين أساسيين، «أحداث عنق الزجاجة»، و «تأثير المؤسس».

أحداث عنق الزجاجة

من خلال ما قدمناه في سلسلة مقالات سابقة حول نشأة المجتمع البحريني القديم، يمكننا أن نرجح أن غالبية القرى التي تكونت في البحرين في الحقب الإسلامية، تأسست من قبل مجموعات سكانية منبثقة من مجموعة عرقية واحدة. هذه الجماعة العرقية كونت لنفسها، خلال فترات زمنية سابقة، خصائص أساسية، سواء كانت خصائص جينية أو لغوية، بحيث أصبحت مجموعة متجانسة. وأهم العوامل التي أدت لتجانس هذه المجموعة، وبلورة خصائصها عبر الزمن، مجموعة من الأحداث يطلق عليها في علم وراثة الشعوب مصطلح «أحداث عنق الزجاجة» bottleneck events. هذا المصطلح يستخدم للإشارة لمجموعة الأحداث التي أدت لتناقص أعداد مجموعة من السكان على مدى فترة طويلة من الزمن، وهذا من باب التشبيه؛ حيث شبهت الجماعة وكأنها تعيش في زجاجة كبيرة، ولهذه الزجاجة عنق ضيقة، ولن تتمكن إلا مجموعة قليلة من الخروج من عنق هذه الزجاجة. ومعنى ذلك أن الأعداد الغفيرة من السكان تعرضت لمجموعة من الأحداث أدت لغربلتها وبذلك أدت لتقليص أعداد السكان، إلا أن هذه الأعداد الأقل من السكان تحمل عوامل وراثية معينة جعلتها أكثر تكيفاً مع البيئة المحلية. ويمكننا تلخيص تلك الأحداث أي أحداث عنق الزجاجة في ثلاثة أحداث رئيسية: أحداث اقتصادية، أحداث بيئية وأحداث لها علاقة بالتكيف الجيني - البيئي وبالتحديد لها علاقة بمرض فقر الدم المنجلي (السكلر) ومرض الملاريا. وقد سبق مناقشة هذه العوامل بصورة مفصلة في سلسلة مقالات سابقة.

وقد عملت أحداث عنق الزجاجة على تعزيز عملية انصهار الجماعات المختلفة من السكان مع بعضها لتكون جماعة واحدة متجانسة. وعلى مدى السنوات التي سادتها أحداث عنق الزجاجة أخذ السكان يكونون جماعة واحدة متجانسة قليلة البدائل الجينية وتحمل بدائل جينية ذات انتقائية إيجابية تمكنها من التكيف مع الظروف البيئية. يذكر، أن أحداث عنق الزجاجة تكررت في أكثر من حقبة زمنية؛ ما يعني أن أعداد سكان البحرين كانت تتناقص وتتزايد في حقب مختلفة، وقد أوضح Larsen في دراسته التي نشرها في العام 1983م أعداد سكان البحرين في الحقب الزمنية المختلفة منذ حقبة دلمون حتى الحقبة الإسلامية المتوسطة. هذه الدراسة توضح أن أعداد السكان في البحرين كان يتزايد حيناً ويتناقص في فترة لاحقة، وان هناك هجرات خارجة من البحرين وهجرات واردة لها. كذلك توضح هذه الدراسة أن آخر حقبة تناقص فيها سكان البحرين بصورة ملحوظة كان في الحقبة ما بين 400 - 1050م. أي في حقبة ما قبل الإسلام، والحقبة الإسلامية المبكرة، وحتى نهاية السيطرة القرمطية على البحرين (Larsen 1983, figure 16 and table 6).

إذاً، وبحسب المعطيات السابقة، يتضح أن سكان البحرين القدماء تم إعادة بلورة خصائصهم وصهرهم في جماعة متجانسة خلال الفترة ما بين 400 - 1050م. ومع نهاية القرن الحادي عشر بدأت هذه الجماعة المتجانسة بالانتشار، ووفدت مجموعات سكانية جديدة، من ضمنها من هاجروا في السابق. هذه المجموعات الفرعية كونت أنوية القرى التي تأسست في الحقبة ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر. عملية الانتشار هذه أدت لما يسمى بتأثير المؤسس.

تأثير المؤسس

يقصد بتأثير المؤسس founder effect، في علم وراثة الشعوب، الخصائص الأولية للجماعة العرقية التي كونت نواة القرية الأولية التي نتجت عنها القرية الحالية، سواء كانت هذه الخصائص جينية أو لغوية. هذه الخصائص الأولية تعتبر خصائص جزئية من الخصائص الأولية التي تميز الجماعة العرقية الأساسية التي توزعت ونتجت عنها هذه الجماعات الفرعية. بمعنى أن «تأثير المؤسس» يعمل عكس عمل «أحداث عنق الزجاجة»؛ فالأخير يؤدي لتجانس الجماعة بينما «تأثير المؤسس» يؤدي لظهور مجموعات فرعية غير متجانسة. نعم، هناك صفات معينة مشتركة بينها، لكن توجد صفات تتفاوت بين هذه المجموعات.

هذا، ويعتبر عدم التجانس هذا دليلاً على تأثير المؤسس والذي عادة ما يتميز بتوسيع درجة التباين بين الأفراد على عكس أحداث عنق الزجاجة التي تقلل من درجة التباين بين الأفراد. فعلى سبيل المثال لو كانت عندنا مجموعة سكانية أولية مكونة من 1000 فرد، ومن بين هؤلاء يوجد 50 فرداً يحملون جينأً معيناً أو صفة وراثية معينة أو ظاهرة لغوية معينة؛ أي أن هذه الصفة أو الظاهرة اللغوية متمثلة في الجماعة الأولية بواقع 5 في المئة، فلو انفصل من هذه المجموعة الأولية خمسون فرداً ليكونوا مجموعة فرعية، وحدث أن يكون من بين هؤلاء الخمسين فرداً عشرة أفراد يحملون تلك الصفة المعينة السابقة، هذا يعني أن نسبة تلك الصفة المعينة في هذه المجموعة الفرعية هي 20 في المئة. وربما تنفصل مجموعة فرعية أخرى فتتمثل بها هذه الصفة بنسبة أكبر أو لا تتمثل في أي فرد منها. بهذه الصورة توزعت الصفة أو الظاهرة اللغوية بنسب مختلفة ضمن الجماعات الفرعية، قد تختفي في مجموعة أو تتضخم في مجموعة أخرى.

وقس على ذلك صفات أخرى تتوزع بين المجموعات الفرعية بنسب مختلفة، وبمرور السنين تتغير تلك النسب وربما تختفي بعض الصفات إذا كانت نسبتها نادرة جداً، وبذلك يكون هناك تباين ظاهر بين المجموعات الفرعية. في واقع الأمر، وعندما نتحدث عن اللهجات الفرعية، فإن كل لهجة ضمن الجماعة الفرعية تكون لنفسها قوة داخلية تعرف باسم «حيوية اللهجة» language vitality. شدة هذه القوة الداخلية يترتب عليها بقاء أو انقراض هذه اللهجة. فما هي العوامل التي تؤثر على درجة حيوية اللهجة ضمن الجماعات العرقية الأساسية والفرعية؟ وهل لها علاقة بالعزلة الاجتماعية؟ هذا ما سوف نتناوله بالتفصيل في الحلقة المقبلة.

العدد 4578 - الجمعة 20 مارس 2015م الموافق 29 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً