الهند وسريلانكا، كلاهما بلدان مستقلان وسيِّدان. نظامان سياسيان مختلفان يحكم كل واحد منهما أرضاً مختلفة. هذا الأمر ليس بجديد، لكن الجديد هو أن يحدث ما يُمكن تفسيره على أنه انتقاص من ذلك الاستقلال أو تلك السيادة، أو على الأقل تداخل الأمور فيها بشكل لافت لأسباب حساسة ومعقدة. دعونا نقرأ هذا الخبر كي نفهم المراد جيداً.
قبل أيام، زار رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي منطقة جافنا في شمال سريلانكا حيث معقل السريلانكيين «التاميل»، والتي شَهِدَت حرباً شعواء دامت 26 سنة عجفاء، راح ضحيتها أكثر من أربعة وستين ألفاً وهلاكٍ في البنية التحتية.
فُسِّرت الزيارة على أنها «استعراضية» لإبداء التضامن مع عرقية التاميل الذين ينتسبون إلى ذات العرقية الموجودة في ولاية تاميل نادو في جنوب الهند، والتي لطالما أبدت دعمها للتاميل السريلانكيين في جافنا خلال صراعهم من حكومة كولومبو المركزية.
الخبر لا يكتفي بذلك فحسب، بل يشير إلى أن رئيس الوزراء الهندي أشاد خلال زيارته تلك «باستئناف خدمة القطارات في بلدة تلايمنار بعد توقف دام 25 سنة» مع العلم بأن الهند هي التي موَّلت «إنشاء خط السكك الحديدية» في تلك المقاطعة السريلانكية وبعلم وموافقة من حكومة كولومبو.
الحقيقة أن ذلك الخبر لا يجعلني أستحضر فقط التداخل بين بلديْن مستقلَّيْن ولهما سيادة، بل أتنبَّه إلى كيفيته والعوامل التي جعلت من ذلك الأمر أن يحصل. إنه باختصار انشطار الهويات عبر الحدود، لأسباب عرقية أو دينية أو طائفية أو حتى سياسية. ليس ذلك حصراً على ذلك البلد، بل هو اليوم موجةٌ تجتاح العالم كله.
تاميل سريلانكا وتاميل الهند. أكراد العراق وأكراد تركيا/ سورية/ إيران. يهود اليمن ويهود «إسرائيل». مسيحيو الموصل ومسيحيو أوروبا. دروز السويداء في سورية ودروز الجبل في لبنان وفلسطين. علويو اللاذقية في سورية وعلويو جبل محسن في لبنان. سُنَّة العراق وسُنَّة العالَمَيْن العربي والإسلامي. شيعة إيران وشيعة العالَمَيْن العربي الإسلامي.
هذه قائمة لا تنتهي. ولو أحصينا العديد من عرقيات العالم لرأينا أن هناك العشرات من الأعراق والأديان والطوائف ممن تنجذب لبعضها في الأزمات. هذا الأمر يعطي انطباعاً أقرب إلى اليقين من أن هناك خللاً في الاستيعاب الاجتماعي للتنوع القائم في الشعوب.
هذا الأمر يفتح النقاش أمام قضية الانتماء للأوطان مرة ثانية وثالثة ورابعة. لماذا لم يعد كثيرون يرون أنفسهم إلاَّ من خلال ما يماثلهم دينياً وعرقياً ومذهبياً في بلدان وأوطان أخرى، في الوقت الذي يعيشون هم في وطن (إن جاز أن ينعتونه وطناً بالأساس) تقوم فيه دولة وشعب على أرض؟ هذا الأمر يجب أن نتفكر فيه جيداً؛ كونه مرتبطاً بالمصير.
القيِّمون على الحكم والتأمُّر على الناس هم الأكثر مسئولية فيه، والسبب أنهم الأقدر على جعل هذا الموزاييك يستشعر مواطنته صباح مساء، عبر جعله أكثر اندماجاً في الفضاء العام للدولة: الخدمة والرعاية وحفظ الحقوق وعدم المسّ بأمنه، كلها أمور تمنحه في خاتمة المسير سكينة تُنتِج لديه لاحقاً مسئولية تجاه المكان الذي أنتج له تلك السكينة.
فالقضية تبدأ مادية لكنها تنتهي إلى شعور نفسي يتم تكوينه من خلال مبادرات إيجابية. وحين يتكوَّن الشعور النفسي للمواطنة فالدولة تضمن كل الأفعال وردودها الصادرة عن أفراد شعبها، بأنها ستكون ضمن المسار الموضوع. وهو أمر جدير بأن يُعلَم.
كثيرٌ من تجارب الشعوب مع المواطنة وعلاقتها بأنظمة الحكم بدأت بقضايا صغيرة لكنها صلبة، دلَّلت على أن سرعة القبول النفسي من المواطن/ الفرد هي أكثر من سرعة البذل المقدَّم من الحاكم سواء أكان أشياء مادية أم خطاباً أبوياً استيعابياً. رأينا ذلك حتى في النشأة الأولى للمواطنة في أوروبا خلال تشكل الدولة الحديثة والهوية.
بل إن الحلول الأوربية في بعض جوانبها كانت غاية في الدقة كي تتجذر المواطنة. فقد كان التحدي في أوجه في مسألة المساواة في المجتمعات المتعددة اللغات وبالتحديد في ويلز والفلاندرز، نهايات القرن التاسع عشر حين كان المواطنون المتحدثون بلغات محلية يُستبعَدون من المراكز العليا. حدث هذا في دول أخرى كهنغاريا أيضاً على سبيل المثال.
عندما نراجع بعضاً من حوادث الصراع الذي احتدم في سريلانكا سنرى أنها هي التي شكَّلت علاقة المسلمين بصورة عامة (كأقلية) مع حكومة كولومبو عندما دافعت عنهم السنهالية/ البوذية (كأكثرية) في أكايرايباتو وإيرافور وجافنا، حين كان الصراع محتدماً لإقامة إقليم على أسس دينية هندوسية في المناطق الشرقية والشمالية.
لكن تلك التجربة مع المسلمين لم تكن تعني إنجاز الدولة السريلانكية معالجة القضية ذاتها مع التاميل، ربما بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت في الداخل، والتي انتهت تواً (2009)، الأمر الذي جعل من مسألة الولاء والمواطنة أمام امتحان صعب ويحتاج إلى بناء ثقة مضاعف، وبالتحديد في المناطق الشمالية والشرقية من الجزيرة.
الولاء والمواطنة يتم بناؤهما كما الحب والعلاقات الإنسانية الأولى، التي تؤسّس للثقة ورؤية الأشياء بشكل متشابه وإن كان الفضاء متناقضاً. كل هذا الاختلاف العرقي والديني والمذهبي المتوزع على البلدان يمكن التعامل معه بشكل صحيح عندما يتم صَهْره في «مواطنة» حقيقية يشعر فيها المرء بأن مَنْ يحكمه هو أحرص عليه من الآخر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4573 - الأحد 15 مارس 2015م الموافق 24 جمادى الأولى 1436هـ
ايران منبع الاٍرهاب
ايران هي منبع الاٍرهاب و التطرّف
بالعكس
إيران منبع ماء الورد للورود و ليس لك .
اغنية جديدة لكن ضرورية
يا مضيع عقل وين العقل تلقاه!!
ليش ...
ليش يا كاتب ما توجهه رسالة صريحة لسفارة الهند وباكستان لسحب ...
نتيجة حتمية
عندما تغيب المواطنة فلن يصبح للدول حدود