بيننا من ينسى أن يحلم وينشغل بتفسير أحلام الآخرين. بيننا من يُحاضر في البناء، وهو مُقاول هدم. مِنَّا من لا يكُفُّ عن الحديث عن الحبِّ، وهو مرجعٌ في الكراهية. لا نعدم في أوساطنا أولئك الذين ينشغلون بالحكمة، ولكنهم منجمٌ للحماقات.
ليس صعباً أن نكتشف اليوم، أولئك الذين يدْعون إلى تحطيم الفوارق، وإنهاء التمييز العنصري، ولا يأوون إلى فراشهم قبل أن يمسحوا بالأرض كرامة عاملة آسيوية جاءت من آخر الدنيا كي توفّر رغيفاً ساخناً لأهلها، ومعطفاً يقي برد الشتاء الطويل لأطفالها؛ وبعضهم يؤمن بتطبيق: «الأقربون أوْلى بالمعروف» ضمن تلك الممارسة.
ليست نكتةً أن تمتلئ بعض المنابر بالمواعظ، على لسان منحرفين يتستّرون بـ «قال الله»، و»قال رسوله»، و»ورد في الأثر». وبين ظهرانينا ضباع تصرُّ على أنها أكثر وداعة من الحمل والحمَام. تستقبلنا كل صباح ومساء ابتسامات لو كُشف لنا عن الغطاء لرأيناها خناجر جائعة إلى الطعن في ممارستها الغدر الذي هو بالنسبة إليها عادي.
نزدحم بالعلاقات التي بات من الصعب الكشف عن حقيقتها، ويمارس بعض أبطالها دورهم على مسرح استغفال البشر من حولهم؛ بتمثيل نحتاج إلى قليل من الفطنة كي نكشف عن رداءته. وحين لا يكون في الوجه ماء، سترى ممارسات القهر والتسلُّط وحتى القتل، يُقدَّم اليوم عبر إعلام «دابَّة» على أنه آخر طبعة من كتاب العدل والدليل إليه، والتحرك في فضائه اللامحدود. وليس بعيداً عنَّا اليوم، تحوُّل الأقلام إلى رماح وأدوات قتل؛ فقط لأن أصحابها قد انسجموا مع الخراب الذي يُحدِثونه، والمآسي التي يقيمون لها أكثر من مجلس عزاء. وليس بدْعاً أن تُجيَّش أصواتٌ تروِّج للطائفية على أنها الاكتشاف والتجسيد النهائي للوطنية في آخر صرعاتها والجنون.
كبقعة الزيت التي تزحف على الماء، مُهدِّدةً الكائنات، وعابثةً بالجمال في امتداده، بيننا اليوم من يروْن تهديداً في وجودهم، كلما رأوا الحب رائجاً، والاعتدال قائماً.
ويُصرُّ بعض على أن الوحْل الذي يتنفَّسون منه وفيه، ينابيع تتفجَّر بالزلال، ومثل أولئك هم أعداء البياض والنقاء، وكل ما يدلُّ على الفطْرة.
حطَّم آباؤنا الأصنام داخلهم، وشرعوا في تحطيم أصنام الخارج، فيما نحن نُربِّي الأصنام داخلنا، وندافع عن الأصنام التي من حولنا وفي الخارج.
ليست نُدرة أخلاق، لأننا من دون أخلاق أساساً. إنها ندرة معرفة طاقة كل واحد منا، وندرة التصالح مع نفسه، وندرة الرؤية من الداخل. لدينا من العيون ما يكفي، لكن الرؤية فيها لا تكفي لنبصر ما تحت أقدامنا، ومن السخف الحديث عمَّا فوقنا.
انسجمنا مع الفوضى والأخطاء والأخطار. انسجمنا مع الهزيمة بحيث نأخذها معنا إلى غرف النوم، ومواضع الخلاء. انسجمنا مع الهروب الذي فوَّت علينا حركة العالم التي تضعنا يوماً بعد يوم أمام أحجامنا الحقيقية، وشللنا الكليِّ.
كم صنماً ننفق عليه كي يكبر ويمتد؟ كم حلماً حوَّلناه إلى كوابيس بالفشل الذي لا ينتهي، ولا نريد له أن ينتهي؟ كم بناء ننتظر اكتماله لنهدمه عن وعي أو دون وعي؟ كيف لا نخجل من الحديث عن الحب ونحن صُنّاع الكراهية؟
كم من إنجازٍ أكملناه كما يجب، وحين فعلنا (متوهِّمين) لم يرجع علينا سوى بخراب ودمار، صدَّرنا فائضه إلى من حولنا؟
عن أي حكمة نتحدث وفي الغيبوبة نحن؟ وعن أي عدالة نتحدث ونحن في انشغال بظلم ذوي القربى؟
عن أي موعظة حسنة يتحدث بعضهم، تلك التي تبدأ بلعن من لا يشبهونه قبل الصلاة على النبي وآله وصحبه؟
عن أي وَدَاعة نتكلم والوحوش رابضة فينا؛ بل نحن الوحوش؟ عن أي ابتسامات نكشف وقد خجلتْ منا الخناجر؟ وبأي علاقات نتشدَّق، ونحن لم نوفِّر تسلُّطنا على البيئة الحاضنة لنا؟ وكيف لأقلام تدَّعي المعرفة، وهي تستهدف أصلها: الإنسان؟ وكيف للمقيمين في الوحْل أن يُحدِّثوا الناس عن الطهارة والفضيلة والنقاء وصفاء النفس؟
بعضنا، كمن «لا لزوم له»، ويرى نفسه لازمة وضرورة العالم.
لسنا أمام نُدرة المعنى، في ما نحيا ونتنفس ونتعامل ونرى ونتوهم. إنه غياب المعنى وموته.
لسنا أمام أزمة في الوجود. كثير منا يُسهمون اليوم في تحويل الوجود إلى عدم؛ بل إلى ما بعد العدم!
والتزموا وصْفتكم المُفضَّلة: كفُّوا عن الأحلام وانشغلوا بتفسير أحلام الآخرين؛ وحتى تفسير الأحلام ستخرِّبونه وتؤولونه من منظار كوابيسكم التي لا تريدون لها أن تنتهي؛ لأنكم منسجمون معها!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4573 - الأحد 15 مارس 2015م الموافق 24 جمادى الأولى 1436هـ
فكرة ومقال
استاذ جعفر امام كل حدث يستخلص فكرة فيصيغها في مقال أدبي حافل بالتورية المنسقة والكلمات اللغوية الثرية المعنى
شكرا
جميل جدا
مبدع كالعاده
مبدع
مبدع بلاحدود الله يوفقك
انت كاتب مبدع حتى النخاع أستاذنا
انت مفكر وكاتب وهذا ما اعتقده وقدرتك و قلمك ومكانتك في جريدة عالمية يقرأها كل العالم ... مبدع مبدع مبدع في الوصف والتشخيص وملك الصياغة والقلم .