العدد 4571 - الجمعة 13 مارس 2015م الموافق 22 جمادى الأولى 1436هـ

المرأة قبل النفط... عائشة

رافقتني مرضية إلى بيت صديقة والدتها «عائشة» التي تقطن في حالة أبو ماهر في مدينة المحرق. كما أخبرتني عائشة بأن حي حالة أبو ماهر يعتبر من الأحياء القديمة في المحرق فلا توجد نخيل أو أي نوع من المزارع أنذاك، ولكن يحيطها البحر من كل الجهات، ومعظم سكانها كانوا يعملون في صيد السمك.

تتذكر عائشة طفولتها بوضوح عندما كانت تعيش في بيت العائلة الكبير الذي يقطن فيه جميع أفراد العائلة: الجد، الجدة، الأم، الأب والأعمام. وهي تتحدث عن جدتها شمة التي كانت تعطيها يومياً بيزة واحدة (وهي وحدة من الروبية الهندية التي تساوي 64 بيزة والروبية تعادل 100 فلس)، تخرجها بفك عقدة في ملفعها (وهو قطعة قماش سوداء اللون تلف كحجاب لتغطية الشعر) الذي كانت ترتديه على رأسها، فتذهب عائشة إلى دكان عبد الرحمن لشراء الفول (الباقلاء) والحمص الساخن (النخج). كانت طفولتها سعيدة بالرغم من كون والدها فقير لحد ما. كانوا يطبخون ما يعادل ثلاثة عشر «جيلة» (كيلة) من الرز وعشر ربعات من السمك الطازج الذي يتم اصطيادهُ من البحر، وتقوم اثنتان من زوجات الأولاد بتحضير وجبة الغداء لجميع أفراد العائلة.

كان والدها يعمل غواصاً لصيد اللؤلؤ وهو يمتلك قاربه الخاص و كان يسمى نوخذة أيضاً (النوخذة هو ربان السفينة وصاحب الأمر والنهي فيها وهو الحاكم والقاضي إذا تطلب الأمر الفصل بين متخاصمين، وقد يكون النوخذة هو صاحب السفينة التي يقودها أو يكون مستأجراً لها أو يعمل عليها لحساب الغير). أما والدتها فكانت ترتدي الثوب (الوايل) وهي تذهب كل يوم صباحاً ومساءً لجلب الماء من عيون الماء المجاورة، حيث توجد عينان في «أبوماهر» هما «عين الهام» و»عين أبوخميس». أما الجيران فهم بيت عيد ومريم بنت خميس. كانوا يعيشون في بيت يطلق عليه «كبر» مبني من الحجر البحري من جهاته الأربع وسقفه جملون من سعف النخيل وأعمدته من جذوع الشجر، ليس به حمامات وعند الحاجة يذهب السكان إلى البحر حيث يوجد مكان معد كحمامات جماعية تتجمع مجموعة من الفتيات ويذهبن معاً عند الحاجة. وهناك جسر صغير مبني على البحر معد للوصول إلى الحمامات. أما تلك التي توجد في البيوت فتسمى «قطيعة» (حمام للاستحمام).

لم تذهب عائشة إلى المدرسة أو المعلم (لتحفيظ القراّن) والمعلمين في ذلك الوقت كانوا: المعلم (درويش) الذي كان يدرس البنات والأولاد، والمطوع (عيد)، والمعلمة عائشة (أم الشيخ راشد) التي كانت تدرس البنات فقط. تتذكر عائشة أول مدرسة للبنات التي أسست في عام 1928 في مدينة المحرق وهي «مدرسة خديجة الكبرى». وقد كانت تلقبها بمدرسة «المنجروف» (المنجروف حصر تجلب من العراق مصنوعة من أعواد الأسل تنبت في الأهوار في شط العرب) لأن سقفها كان مصنوع من الجندل أو جذوع شجرة المنجروف.

من الحوادث التي تتذكرها عائشة في أيام طفولتها هو يوم العيد عندما مشطت أمها شعرها ووضعت المشموم فيه وألبستها البخنق، ومن ثم طلبت منها بأن تذهب وتسلم على جدتها وجدها وأن تقبلهما، وعندما قبلت جدها أحس بوجود المشموم في ضفائرها فطلب منها أن تزيله من شعرها ولا تضعه مرة أخرى. مازالت عائشة تشعر بأن جدها قد تصرف بطريقة غريبة ولم تكن تعرف السبب الذي دفع الجد للتصرف هذا مع بنت صغيرة. سألت والدها نفس السؤال فأجاب «أن بعض الناس لديهم أدمغة صغيرة و يعتقدون بمجرد أنهم ذكور أن باستطاعتهم التحكم بالإناث».

وتتذكر عائشة ضاحكة، بأنه لم يسكن غير البحرينيين في منطقتهم، ولا تواجد لأي أجنبي يعمل في الحالة في تلك الأيام. قالت بأنها تتذكر أول امرأة هندية سكنت في المحرق. فقد كان حدثاً غريباً وكانت هي وصديقاتها يرغبن في رؤيتها كل يوم. اتفقت مع صديقاتها بأن يستقيظن مبكراً كل صباح قبل أن تذهب المرأة الهندية إلى عملها. كن يجلسن مقابل بيتها وينتظرن بكل شوق اللحظة التي تخرج منها المرأة مع زوجها. فتنتابهن الدهشة عندما تخرج وهي مزينة، فيتفرجن على الساري الذي كانت ترتديه وشعرها المصفف ووجهها الجميل. ثم يقمن بالمشي وراءها إلى درجة أن المرأة تخاف منهن في بعض الأحيان.

كان والد عائشة يجلب لها ولأخواتها عظام العصافير الميتة وهم بدورهم يصنعون منها لعب أطفال باستخدام قطع من الجريد والقماش الزائد في أشكال متنوعة كالحمير والدمى كي يلعبون بها. كان والدها يدخن السيجارة التي تصنع من التتن المحشاة في أوراق خاصة يطلق عليها (بافرة).

عملت عائشة قبل أن تتزوج بالتطريز مع والدتها التي كانت تبيعه حسب الطلبات. كن يشترين الخيوط المتنوعة من «سوق القيصرية» لاستخدامه في التطريز لكثير من الملابس وأغطية المساند والدواشق (دوشق: كلمة فارسية الأصل. «دوشاك» أي الفراش المزدوج)، وأغطية الرأس للرجال (الطاقية: يطلق عليها محلياً القحفية - غطاء للرأس). و كانت أيضاً تصنع الخيوط بنفسها في المنزل. وكانت هذه المهنة المشهورة في المحرق تسمى «الكورار» واستجدت مؤخراً بافتتاح مركز لنساء المحرق لتعليم المهتمين بهذه الصنعة.

تزوجت في السابعة عشرة من عمرها من علي بن أحمد الذي كان يعمل في البدايات كلحام في بابكو وبعدها عمل في الحرس الوطني. وكانت زوجة عم عائشة متزوجة من أخ علي. وكما أشارت عائشة «لقد رأيته أول مرة في ليلة الدخلة والحمد لله أنه رجل جيد». كان مهرها ألف وست ربيات وكما أعتقد إنه أعلى رقم سمعته من كل الذين قابلتهم. أخبرتني عائشة وهي تعقب على المهر «مازال يذكرني بأنه دفع لي ألف وست روبيات». وأنا كذلك أتساءل لماذا لا ينسى الرجال المهر الذي دفعوه لزوجاتهم. اشترى لها زوجها ثياباً مصنوعة من أقمشة مختلفة. القماش كان شيت،دباية، مخروزة، بزلت، دهلامية، صبغ روحة، ورد الحجاز والمخمل.

ارتدت عائشة البخنق منذ طفولتها حتى زواجها. تتذكر عائشة بأنها لبست أول موديل للعباءات التي كان يخيطها الأحسائيون (نسبة إلى محافظة الأحساء «شرق السعودية») وهم بيت الحاكور وبيت حسن ضيف. وقالت إن عباءتها كانت من الحرير ومطرزة بالخيوط الذهبية «الزري» (خيوط الذهب).

تتذكر عائشة أم جان، القابلة اليهودية المشهورة التي ولدتها في أكثر من ولادة. أم جان التي ذكرتها نانسي خضوري في كتابها «يهود البحرين» جاءت إلى البحرين في عام 1937 وقامت بتوليد عدد كبير من النساء وآخر ولادة قامت بها في سنة 1985. لدى عائشة أربع بنات وستة أولاد وحالياً تسكن مع زوجها واثنتين من بناتها في بيتها الكائن في المحرق.

من وجهة نظرها، ترى بأن الناس في الأيام الفائتة كانوا أحسن خلقاً من وقتنا الحاضر. في الماضي كما تتذكر كانت النساء المتجاورات أكثر تعاوناً وأُلفة، فكن يجتمعن حول آلة الرحى ويجلبن حب الحنطة لطحنه. فكن يبدأن من شهر رجب، شهرين قبل شهر رمضان المبارك. وعند حلول الشهر الكريم يكنَّ قد جهزن الطحين وحب الهريس والجريش. كما أنها تتذكر جيداً الرحلات التي كن يستقلن الباصات لها مع الصديقات إلى جزيرة النبيه صالح وسترة. وتتذكر أيضاً أغاني النساء عندما يذهب الرجال إلى صيد اللؤلؤ والأغنية الشهيرة «توب توب يا بحر».

في اعتقادي المحرق تحتوي على ثقافات مختلفة تختلف عن مدينة المنامة وأجزاء أخرى من البحرين. السكان هنا خليط من القبائل العربية السنية، والأحسائيين والعجم (الإيرانيون الشيعة) والهولة، والبحارنة (الشيعة) الذين كانوا يقطنون عراد وسماهيج والدير. القبائل العربية السنية تعيش في المحرق والحد وقلالي أما عراد فهي خليط من كل هؤلاء.

العدد 4571 - الجمعة 13 مارس 2015م الموافق 22 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً