لكل دولة فضاءان: طبيعي ومكتسب. في الفضاء الأول تلعب اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا دوراً مهماً في تكوينه. أما الفضاء الثاني، فإن ظروف الدولة السياسية والاقتصادية، وعلاقاتها في الإقليم والعالم هي التي تصنعه وتنشّئه حيناً بعد حين، وبالتالي فهو لا يتمتع بالأهمية ذاتها كونه نشأ وتماسك كأرض «محتملة».
إيران ليست خارج ذلك السَّمْت. فهي لها فضاءَان كذلك، واحدٌ طبيعي والآخر مكتسب. وربما كثير من العرب، يهتمون بإيران من خلال علاقاتهم معها في عدد من الدول التي تشهد صراعاًً محتدماً في العالم العربي كالعراق وسورية ولبنان واليمن الآن، في الوقت الذي يتفاوت فيه الاهتمام الإيراني بتلك المناطق العربية طبقاً لقياس الفضاءَيْن.
فإيران لا تنظر إلى العراق بذات الأهمية التي تنظر فيها إلى اليمن، ولا تنظر إلى سورية بذات الأهمية التي تنظر فيها إلى لبنان، فهي تقيم ميزان التقدير بناءً على القواسم المشتركة بينها وبين تلك الأمصار بالاعتماد على شروط ومتطلبات الفضاء الأول، إن كانت ثقافية أو تاريخية أو جغرافية.
أكتب هذا الرؤية بداية كي أتحدث عن حقيقة الاهتمام الإيراني بدول المنطقة الممتدة من آسيا الصغرى وشرقاً حيث غرب آسيا، نزولاً حتى جنوب وجنوب شرق آسيا. ضمن هذا الخط هناك دول عديدة يرى الإيرانيون أنفسهم في حالة مشاركة معها أكبر من دول عربية كالتي ذكرناها، كون العلاقة معها صلبة ومتجذرة ولا تقبل التضحية بها.
من بين تلك الدول تركيا. وأيضاً الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي كتركمانستان وكازاخستان وآذربيجان وطاجيكستان وأوزبكستان. أما في الوسط والجنوب فهناك الهند وباكستان وأفغانستان ثم الانعطاف جنوب غرب حيث منطقة خليج عُمان ومحيطها فتبدأ من الشرق (جابهار في إيران وجْوادر في باكستان) نزولاً إلى الجنوب.
هذه المنطقة الممتدة هي ما تعتبره إيران فضاءً طبيعياً لها. فتاريخياً ولغاية القرن التاسع عشر كانت أغلب الأرض التركمانستانية خاضعة لإيران، كما تشترك معها في ثلاثة أعراق تسكن البلدين وهم التركمان والآذريين والبلوش. وهو ينطبق أيضاً على طاجيكستان (التي مسماها كان مرادفاً للفارسية) ودول أخرى محيطة بتلك المنطقة، في الشمال والجنوب بما فيها الهند وباكستان وأفغانستان بدرجات متفاوتة من المشترك.
وربما رأينا حجم الخلاف الإيراني التركي في العديد من الملفات، كالصراع في ناغورني كره باغ بين آذربيجان وأرمينيا، ثم في الملف السوري، الذي وصل إلى حد التقابل على الأرض في حلب، وتناقض المصالح والحلفاء فيها، إلاَّ أن ذلك لم يمنع البلدين من أن يستمرا في علاقتيهما الوثيقة إلى درجة توقيع 10 اتفاقيات تعاون استراتيجي بينهما قبل شهور.
ولغاية فترة ليست بعيدة، كانت أنقرة هي التي تستضيف محادثات الملف النووي الإيراني بين الغرب وطهران (ومن المفترض أن تستضيف جولة يونيو إذا ما تمت صفقة الإطار في مارس)، وتحرص على تقريب وجهات النظر بين الطرفين. ولم تلجأ تركيا لتحريك ملفات مضادة لإيران في الداخل، وكذلك الإيرانيون الذين حرصوا ألاّ يفعلوا ذلك مع أنقرة.
وإسقاطاً على العلاقات الإقليمية لإيران ضمن فضائها الطبيعي، أستحضر ما تمّ قبل أيام، حين زار الرئيس الإيراني حسن روحاني العاصمة التركمانستانية «عشق آباد»، واتفق مع رئيسها قربان قلي بردي محمدوف على «تفعيل ممر جنوب - شمال الذي يربط عُمان وإيران وتركمانستان وأوزبكستان»، واصفين العلاقة بينهما بأنها «ليست عادية وإنما كانت طيلة القرون الماضية علاقات متميزة وضاربة في عمق التاريخ»، وهو ما كان فعلاً.
وحين نريد توصيف ذلك الممر الجنوبي الشمالي بشكل دقيق، فإننا نتحدث عن منطقة تزيد عن عدة آلاف من الكيلومترات، ومتشعبة الطرق نحو خمس دول بشكل مباشر وخمسة عشر دولة بشكل غير مباشر، كونه خطاً مزدوجاً، يستخدم الطرق البرية والبحرية بالسواء، إذا ما علمنا أن إحدى نقاطه هي بحر الخزر الذي تتشاطأ عليه عدد من الدول، وهو ما يعني أن علاقة ثنائية لبلدين، يمكن أن يزيد تبادلهما التجاري بعد عشرة أعوام على الـ 60 مليار دولار، شاملة للنفط والغاز والكهرباء وكافة الصناعات الأخرى.
الإيرانيون يريدون أن يكونوا منطقة الربط ما بين الشمال «البارد» والجنوب «الدافئ»، وهو حلمٌ لطالما راوَدَ دول الاتحاد السوفياتي فضلاً عن روسيا نفسها. وهو إذا ما تحقق، سيعني أن تبدلاً سيحصل في منطقة المحيط الهندي وشبه الجزيرة الهندية وشرق إفريقيا، خصوصاً وأنه سيربط خطوط الاتصال التجارية القادمة من رأس الرجاء الصالح.
كما سيوفِّر ذلك للإيرانيين مساراً نقياً عن المسارات السياسية والاقتصادية الموازية في المنطقة، وبالتحديد في المناطق العربية، وذلك بهدف ترتيب مصالح الفضاء الطبيعي لهم وللدول المرتبطة به، للتخلص من المساومات وتفادي وسائل الضغط المحتملة، التي قد تخلقها ظروف الصراعات على الأرض.
في المحصلة، ما يجب أن يُعرَف عن إيران هو هذا كي نستطيع أن نحدّد مسار العلاقات الإقليمية، وأن نقيم لأنفسنا فضاءً طبيعياً (هو قائم في أصله) بعيداً عن التوترات والخلافات. وهو فضاء واضح المعالم، تُحدده كل مقوماته الطبيعية من تاريخ وثقافة وجغرافيا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4571 - الجمعة 13 مارس 2015م الموافق 22 جمادى الأولى 1436هـ
متابع
ألا يستحق اليمن مقالا أستاذ محمد ؟ ولو من وجهة نظر ايرانية ؟
آمل أن يكون الاقتراح الذي اقترحته في تعليقي على المقال السابق قد وصلك
شكرا
التنوع في الطرح لصاحب العمود يزداد الترغيب في المتابعة لما يطرحه الكاتب..
ايران
ايران دولة معادية لنا و ستبقى كذلك الى يوم الدين و باْذن الله سنعيد ذكرى ذي قار و القادسية و سيعلم الفرس ان العرب اسيادهم بفضل الله عز و جل
تشتمون الدين من حيث تشعرون أو لا تشعرون
كان من صحابة نبي الأمة سلمان الفارسي الذي عده النبي من أهل بيته. وكان من أئمة الإسلام من الفرس خلق كثير، فكان منهم الواقدي والشافعي والبخاري والنيسابوري والفيروزآبادي والسجستاني والنسائي والبيقهي! فماذا تتفاخرون؟؟؟؟؟
سؤال تؤكده التطورات الجارية
سؤال : الا تعتقد أن بعض الدول في الفضاء المكتسب كما تفضلت يمكن ان تتحول الى دول مهة جدا تكون مثل وزن الدول الاخرى في الفضاء الطبيعي ؟ اعتقد ان ذلك يحصل
احسنت
تحليل ممتاز . تعجبني قراءتك للاوضاع الاقليمية حتى ولو اختلفت معك في بعضها