كلُّ جهة بقلب. كل قلب بجهة. وقلبٌ بلا جهة هو بحكم العائم، الضالِّ، التائه. حين يتيه القلب فلا تنتظرنَّ منه سؤالاً. سيكون مشغولاً بنفْسِه ريثما يصلُ. يتلمُّس جهة هو في أثرها. سيذهب في طلبها حتى الخفقان الأخير. إن بقي خفقان! حين تختلط الجهات عليه، يتيقَّنُ أنها بلا قلب. أو عليه أن يتأكَّد من قلبه!
***
أنقُصُ حين يُغادر الأحبة. أُحصيهم قلباً قلباً، نجوى نجوى.. جُرْحاً جُرْحاً سيحلُّ بعد أن يغرزوا سكِّين بُعْدٍ سيكونون فيه. وأنا في القُرْب أبعد منهم بحجم آهَةٍ، في وحدَةِ مُدلَّهٍ لا يطمع بغير الصوت ولو من وراء حجاب! حين يستبدُّ به الغياب. كثير أنا بأحبَّتي. كثيرٌ أنا بهم... قليلٌ بَعْدَ بُعْدِهم. كأنني حصيلةُ... طرَفُ «الطرْح» كلما غادر أحدهم. «قسْمَةٌ» بيننا حين نتدفَّأ بالصوت عن قرب. و «جمْعٌ» به نحيا ونستوي. نتدفَّأ أقل عن بعد. نتجمَّد حين يُسفر الغياب عن وجهه البارد. لن يُعيرنا أحدٌ معطفه كي نمضي أو نُقيم. لا أحد سيعيرك معطفه في زمهرير الوقت وصقيع الوحشة.
***
مستقبلك تراه في من تُحبُّ. يحرص على ألاَّ تلتفت إلى الوراء... إلى ماضٍ هربَ منكَ أو هربتَ منه. حاضرك مستقبلٌ هو الآخر. كلما حيَّدتَ الزمن. حين يحضر الوقت مع من تُحبُّ فذلك يكشف عن حضور ناقص. الحضور الكامل ألاَّ تعير نبضاً للزمن ولا شيئاً من العاطفة تجاهه. كلَّما تبرَّمْتَ من تطفُّله ووقْعِه على المكان. كلما انتبهتَ إلى القلب.
***
هائل كل مُحبٍّ؛ بحجم قدرته على هيمنة روح حضوره
ولو كان في البعيد. كأنه لا يُرى حين يجرؤ على النسيان.
حين يجرؤ على النأي وحين يصيبه الضجر. لا يضجر مُحبٌّ. يألم... يتلوَّى... يدخل في النحول... لكنه لا يضجر. الضجر لا يجعل المُحبَّ يُبصر. يصيب الضجرُ البصيرةَ بعمى مؤقت، وقد يطول إن لم تشْفَ منه.
***
الغياب عند المُحبِّ: غروبٌ حتى مطلع فجْرٍ آخر؛ ذلك إن طلع عليه فجر. الغياب تجريح للألْفَة والاعتياد. الغياب للمُحبِّ غُصَّة لا يمحو أثرها إلا التكفير عن جُرْم، عن قصد أو دون قصد. أن يعود ويرمِّم الروحَ التي أُنْهِكتْ، والقلبَ الذي مسَّه ما بعد الضُّر، والمكانَ الذي افترسته الكآبة، والوقتَ الذي أصيب بالضجر.
***
أفترس الكراهية كلما تمسَّكتُ بالذين أحب. أتفرَّغ لحراسة القلب كي لا تدنو منه. أرجمها بمزيد من الحب. لا أنشغل سوى بالبياض الذي يصنعه. الكراهية تصنع وتُخلِّف رمادها ورَمَدها والعمى. أرى بعين العاشق. الكراهية ليل. لا تعرف من الألوان إلا ما دون الأسْوَد بكثير. تعلَّمتُ من حكيم ظل يتلوّى من غياب مسَّه: غبيٌّ من ظن أنه سينتصر بالكراهية. يكفي أن تحبَّ كي تنتصر.
***
العاشقون أصحَّاء على رغم عِلَلهم. الذين بكراهيتهم فَرِحون هم في النزع الأخير من الحياة؛ ولو عمَّروا في الحياة. هو الفارق إذاً بين حضور وغياب. بين أن تكون كثيراً بمن تحب، وأن تكون قليلاً في غيابه/ غيابهم. أن تنقص حين يغيبون؛ وأن تكثر بحضورهم!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4571 - الجمعة 13 مارس 2015م الموافق 22 جمادى الأولى 1436هـ