في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، وقع اتفاق أوسلو في مدينة واشنطن، ووقعه ياسر عرفات عن الجانب الفلسطيني، بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وعن الجانب الإسرائيلي وقّعه إسحق رابين بصفته رئيس الحكومة الإسرائيلية. وحضر حفل التوقيع الرئيس الأميركي بيل كلينتون. وقد حمل الاتفاق المذكور عنوان: «إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي».
كان توقيع الاتفاق، حصيلة مفاوضات سرية طويلة، قادها عن الجانب الإسرائيلي، وزير الخارجية آنذاك شمعون بيريز، وعن الجانب الفلسطيني أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية، محمود عباس، الرئيس الحالي للسلطة الفلسطينية.
قضى الاتفاق، الذي عرف في حينه باتفاق «غزة - أريحا أولاً»، بقيام سلطة فلسطينية، على أراضي الضفة والقطاع، مهمتها انتقالية، وتدير شئون الفلسطينيين في المناطق التي احتلتها «إسرائيل» في حرب يونيو 1967. وأن هذه الفترة لن تتجاوز الخمس سنوات، تجري بعدها المفاوضات النهائية، التي يعلن على أثرها قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
مضى على توقيع هذه الوثيقة اثنان وعشرون عاماً، وضع خلالها الكيان الصهيوني مسامير كثيرة، جعل منها مجرد حبر على ورق. وخلالها استثمر العدو، حالة الاسترخاء الفلسطيني، التي نجمت عن توقيع الاتفاق، وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، ليوسع من بناء المستوطنات، ويصادر الأراضي والممتلكات، وليسن القوانين المعوقة لحق العودة. مع سعي حثيث ومتواصل لتهويد المدينة المقدسة، مع تنكر لنصوص اتفاقية أوسلو، التي تشير إلى أنه مجرد اتفاق مؤقت، يهيئ لنقل السلطة كاملة للفلسطينيين، بعد خمس سنوات من توقيع الاتفاق.
وعلى الجانب الفلسطيني، تمسكت السلطة الفلسطينية ببنود الاتفاق، بما فيها البنود التي تمثل تجاوزاً صريحاً لحق الفلسطينيين في المقاومة وتقرير المصير. ومن أسوأ تلك البنود، ما عُرف بالتنسيق الأمني بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية. وهو تنسيق من جانب واحد، يلزم الفلسطينيين وحدهم بتنفيذه، ولا يتحمل الإسرائيليون شيئاً، من جرائه.
لقد أسهمت ترتيبات التنسيق الأمني، بين السلطة والكيان الصهيوني في لجم الحراك المقاوم للاحتلال. وكان أسوأ ما فيه، هو إناطة دور الشرطي والحارس للاحتلال، إلى السلطة. ومن خلاله تم تسليم قادة فلسطينيين، كان لهم دور ريادي في قيادة الكفاح الفلسطيني، وبشكل خاص في انتفاضة الأقصى، كالقائد مروان البرغوتي والقائد أحمد سعدات. وهما الآن في سجون الاحتلال لأكثر من عقد، حالهما في ذلك حال آلاف الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال، دون سعي من السلطة الفلسطينية لإطلاق سراحهما.
في الوقت ذاته، حظي القتلة من الصهاينة، بحماية الكيان المغتصب ورعايته، ولم تتم محاسبة أي منهم قانونياً وقضائياً على جرائم القتل التي ارتكبوها بحق المدنيين الفلسطينيين. وقد شهد العقد الأخير، تصاعداً مضاعفاً في الممارسات الصهيونية، ومصادرة الأراضي، وبناء الجدران العازلة، والمعابر من حصة الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تديرها السلطة الفلسطينية.
يتزامن ذلك مع تحدٍ صهيوني سافر للقرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وتسويف باتجاه مبادرات الحل، التي لم تقدّم ما هو أقل من الحدود الدنيا من الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك المبادرات الأميركية العديدة، سواء تلك التي أعلن عنها في عهد الرئيسين كلينتون وبوش، أو تلك التي أطلقت في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما.
قرار المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي صدر مؤخراً بالدورة العادية السابعة والعشرين والتي حملت عنوان «دورة الصمود والمقاومة الشعبية» التي عقدت في رام الله يومي الأربعاء والخميس (4-5 مارس/آذار 2015)، هي انتفاضة داخل منظمة التحرير الفلسطينية، على ممارسات الكيان الصهيوني الغاشمة.
فبالإضافة، إلى تأكيد المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، التمسك والالتزام المطلق والثابت بالحقوق الوطنية وبإعلان الاستقلال وحق دولة فلسطين في ممارسة سيادتها على أرضها، أكد أن طريق الأمن والسلام والاستقرار في فلسطين لن يكون سالكاً إلا بقيام دولة فلسطين المستقلة على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 وعاصمتها القدس، وضمان حق اللاجئين في العودة وفق القرار 194، ومبادرة السلام العربية، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
ورغم أن هذه صيغة مألوفة في البيانات الفلسطينية السابقة، فإنها تأتي بعد غياب طويل لمنظمة التحرير التي كاد يطوي اسمها النسيان. والأهم من ذلك هو ما تضمنه بيان المجلس المركزي، من تحميل سلطة الاحتلال «إسرائيل» مسئولياتها كافة تجاه الشعب الفلسطيني في دولة فلسطين المحتلة كسلطة احتلال وفقًا للقانون الدولي. ووقف التنسيق الأمني بكل أشكاله مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي في ضوء عدم التزامها بالاتفاقيات الموقعة بين الجانبين.
السؤال الذي يدور بخلد الفلسطينيين بشكل خاص والعرب جميعاً، هل نحن أمام انتقال استراتيجي في سياسة السلطة الفلسطينية، تجاه الاحتلال الصهيوني؟ وهل سيتم الالتفاف على هذا القرار من قبل السلطة أم سوف يجري التقيد به؟
إذا ما أحسّنا النية في صدقية هذا القرار، فإن ذلك يعني أن السلطة وضعت أول مسمار حقيقي في نعش أوسلو. وأن الأهم هو ما سيترتب على ذلك من تداعيات، على الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية معاً. فليس لإنهاء التنسيق الأمني الفلسطيني مع الكيان الصهيوني سوى إطلاق يد المقاومة، بشقيها الشعبي والمقاوم، من أجل طرد الاحتلال، والتهيؤ لما يترتب على ذلك من منازلة مع الكيان الغاصب.
ليس ذلك فحسب، بل والمطالبة بإطلاق سراح القادة الفلسطينيين الذين تم تسليمهم من قبل السلطة للكيان الغاصب، بناء على نص في اتفاق أوسلو أمسى من الماضي.
الأيام المقبلة ستتكفل بتوضيح ما إذا كان قرار المجلس الفلسطيني، مسماراً حقيقياً في نعش أوسلو أم أنه استجابة آنية منفعلة، تجاه غطرسة المحتل... وليس علينا سوى الانتظار.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4570 - الخميس 12 مارس 2015م الموافق 21 جمادى الأولى 1436هـ