أدخل عالم الجغرافيا البريطاني طوني ألن مفهوم «المياه الافتراضية» في أوائل تسعينات القرن العشرين. غير أن الإقرار بأهمية هذا المفهوم في تحقيق الأمن المائي الإقليمي والعالمي استغرق نحو عقد من الزمن. ويعرّف محتوى «المياه الافتراضية» في سلعة ما بأنه حجم المياه المستخدمة في إنتاجها مُقاساً في موقع إنتاجها، أو مُقاساً في موقع استهلاكها.
وغالباً ما يشار إلى أن واردات المياه الافتراضية في بلد شحيح المياه يمكن أن تخفّف الضغط على موارده المائية، وأن تعتبر مورداً بديلاً للمياه، وأن تستخدم كأداة في تخطيط الموارد المائية وإدارتها. كما يمكن أن ينظر إلى تجارة المياه الافتراضية بين البلدان أو في داخلها كبديل عن نقل المياه بين الأحواض المائية. ويشير خبراء إلى أن الإنتاج الأمثل ليس فقط في اختيار حكيم لمواقع الإنتاج، وإنما أيضاً في التوقيت الملائم للإنتاج. وهكذا يمكن محاولة التغلّب على فترات شحّ المياه بتخزين المياه في شكلها الافتراضي، مثل تخزين الغذاء. وقد يكون ذلك طريقة أكثر كفـاءة وأكثر ملاءمة للبيئة للتعامل مع فترات الجفاف، من بناء السدود الضخمة للتخزين الموقّت للمياه على سبيل المثال.
الحجّة الاقتصادية خلف تجارة المياه الافتراضية، وفقاً لنظرية التجارة الدولية، هي أن على البلدان أن تصدّر المنتجات التي تمتلك أفضلية نسبية في إنتاجها، وأن تستورد المنتجات التي تعاني نقصاً نسبياً في القدرة على إنتاجها. ويمكن أن تكون تجارة المياه الافتراضية بين البلدان أداة لزيادة كفاءة الاستخدام العالمي للمياه. فمن المنطقي من منظور اقتصادي إنتاج السلع الكثيفة الاستهلاك للمياه في الأماكن التي تتمتّع بوفرة مائية. فالمياه في تلك الأماكن غير مكلفة نسبياً، والآثار الخارجية السلبية لاستخدامها ضئيلة، وغالباً ما تكون المياه اللازمة في المنتج أقل. وهكذا فإن تجارة المياه الافتراضية من بلد ذي انتاجية مائية مرتفعة إلى بلد ذي إنتاجية مائية منخفضة نسبياً تعني ضمناً تحقيق وفورات مائية عالمية حقيقية.
تكمن قوة مفهوم المياه الافتراضية في أنه يشمل مجمل إدارة المياه في بلد أو حوض، ويتيح فهماً أعمق لاستخدام المياه. وذلك، على سبيل المثال، من خلال توصيف النظام الغذائي أو التوزيع الأمثل للمياه بين مختلف الاستخدامات، عن طريق إتاحة الوصول إلى موارد مائية خارجية من خلال تجارة المياه الافتراضية. يقدّم هذا المفهوم باعتباره أداة عملية للسياسات يمكن توسيعها لتشمل التحليل المفصّل لإدارة موارد المياه، بالإضافة إلى السياسات البيئية والزراعية والتجارية. لقد تم حل العديد من المشاكل تجريبياً من خلال السياسات والاستراتيجيات الغذائية المنطقية في العديد من بلدان مجلس التعاون الخليجي والبلدان العربية الأخرى. على سبيل المثال، اختار الأردن سياسات لخفض أو وقف صادرات المنتجات المحلية من المحاصيل الكثيفة الاستخدام للمياه، وإبدالها بالواردات أو زراعة محاصيل ذات عوائد عالية لإتاحة الاستخدام الأمثل للمياه.
قيود ومخاطر
تستأثر الزراعة في بلدان مجلس التعاون الخليجي بنحو 85 في المئة من إجمالي استهلاك المياه، المستخرجة أساساً من الطبقات الجوفية غير المتجدّدة. ومع ذلك فإنها لم تجارِ الطلب المتزايد على الغذاء، ما أدى إلى اتساع الفجوة الغذائية التي يتم تغطيتها بالواردات. لذا فإن اعتماد بلدان الخليج على المنتجات الغذائية المستوردة هو في تزايد مستمر، نتيجة التزايد السريع للسكان وتحسّن مستويات المعيشة والتنمية الاقتصادية والصناعية المستمرة من جهة، ومحدودية أو استنزاف الموارد المائية الطبيعية ومحدودية الأراضي الزراعية من جهة أخرى. كما يتوقع أن يكون لتغيّر المناخ تأثير كبير على الإنتاج الزراعي في المنطقة.
بلغت حركة تجارة المياه الافتراضية في بلدان الخليج خلال العقد بين 1996 و2005 نحو 33 مليار متر مكعب في السنة، أي نحو 1100 متر مكعب للفرد في السنة. وكانت الحصة الكبرى للتجارة الدولية في المنتجات المتصلة بالزراعة التي استأثرت بنحو 96 في المئة، في حين مثّلت التجارة في المنتجات الصناعية النسبة المتبقية. وإذا أُخذ في الحسبان أن البلدان الخليجية تقع دون عتبة الشحّ المائي الحادّ البالغة 500 متر مكعّب للفرد في السنة، حيث حصة الفرد فيها 155 متراً مكعّباً في المتوسّط، فإن أهمية المياه الافتراضية في المنطقة تصبح واضحة جداً. في المقابل، قدّر إجمالي تجارة المياه الافتراضية بين البلدان الخليجية بنحو 1,1 مليار متر مكعب عام 2006. ويشير هذا الاختلاف الكبير بين الرقمين بوضوح إلى أن الأمن الغذائي في هذه البلدان لا يمكن أن يتحقّق عبر التكامل بينها في الإنتاج الزراعي فقط، إذ ليس لأي منها أفضلية نسبية في الإنتاج الزراعي. كما يشير إلى ضرورة النظر في دوائر أكبر للتكامل، وتحديداً دائرتي العالم العربي والعالم الإسلامي.
غير أن لتجارة المياه الافتراضية العديد من القيود والمخاطر المصاحبة، أهمها تقلّب الأسعار. فمنطقة مجلس التعاون الخليجي معرّضة للارتفاعات الحادة في الأسعار العالمية للسلع الغذائية، باعتبارها منطقة مستوردة للغذاء، كما حدث عام 2008. وكان لتلك الزيادة في الأسعار تأثير قوي على السياسة الغذائية والزراعية للمنطقة، وسيستمر تأثيرها في العقود الآتية. ويشير ارتفاع عدد السكان في بلدان المجلس إلى تزايد الاعتماد على استيراد المنتجات الغذائية الأساسية، التي يتوقّع أن ترتفع وارداتها من 18 مليار دولار عام 2007 إلى 53 مليار دولار في 2020، بنسبة 8 في المئة من مجمل الواردات من حيث القيمة. ويعتبر ضمان توافر الواردات الغذائية بأسعار يمكن تحملها من الأولويات الاستراتيجية الرئيسية للمجلس.
في أعقاب أزمة أسعار الغذاء، درست حكومات مجلس التعاون الخليجي والمستثمرون في المنطقة طرقاً بديلة لضمان الواردات الغذائية عن طريق التحكّم في مصدر التوريد. وتقوم الاستراتيجيات الرئيسية على شراء الأراضي في البلدان النامية أو استئجارها لأمد طويل من أجل استخدامها للزراعة الموجّهة نحو التصدير. ويجري حالياً درس مشاريع زراعية أو التفاوض عليها أو تنفيذها في شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء، وآسيا الوسطى، وجنوب آسيا، وأوروبا الشرقية، بما في ذلك السودان وكينيا وباكستان وإندونيسيا وبلدان أخرى. غير أن هذه الاستراتيجية تنطوي على العديد من المخاطر، وتتطلّب إدارة حريصة ومستمرة وضمان اشتراك الجانبين في المنافع. ومن الاستراتيجيات الأخرى المقترحة لخفض التعرّض لتقلّبات أسعار السوق إدارة مخاطر الاحتياطيات الغذائية الاستراتيجية الإقليمية ونهج الشراء الإقليمي.
غير أن استيراد الغذاء يجب ألا يكون النهج الوحيد المتاح للبلدان الخليجية الشحيحة المياه لتحقيق الأمن الغذائي. فأنظمة الري الكفوءة تؤدّي دوراً حيوياً في المحافظة على موارد المياه واستدامتها، فضلاً عن استدامة إنتاج الغذاء والتنمية الزراعية في المستقبل. ولا بدّ من الانتقال إلى أساليب الري والزراعة الحديثة وأدوات إدارة الطلب، لزيادة الإنتاجية الزراعية والمحافظة على المياه. كما أن زيادة كفاءة استخدام المياه وإدارة الطلب وتدابير المحافظة على البيئة في القطاع الزراعي، الذي يستهلك أكبر نسبة من الموارد المائية وتنخفض فيه كفاءة الري، تؤدي إلى وفورات فعّالة وحقيقية في المياه. ويجب أن يتوازى ذلك مع تعزيز الإنتاج الزراعي عن طريق البحث العلمي والتطوير الزراعي في المنطقة.
ما يتم طرحه هنا هو وجوب أن تكون استراتيجية المياه الافتراضية جزءاً متمماً ضمن الإدارة المتكاملة لموارد المياه، وأن تُدمج السياسات الزراعية مع السياسات المائية لتحقيق الأمن الغذائي والمائي على حد سواء. ويتضح هنا أيضاً البعد المتعلق بالطاقة في العلاقة المتداخلة بين الماء والغذاء. فباستيراد المحاصيل الكثيفة الاستهلاك للمياه لا نوفّر المياه فحسب، وإنما نوفّر الطاقة أيضاً عن طريق خفض استخراج مياه الري من المكامن المائية العميقة. وهذا أمر مهم في البلدان الخليجية التي يكثر فيها استخراج المياه الجوفية الكثيف الاستهلاك للطاقة.
يمكن تحقيق الأمن الغذائي في البلدان الخليجية باعتماد مزيج من السياسات الزراعية المتمّمة والمتوازنة، بين الزراعة المحلية التي تأخذ في الحسبان محدودية الموارد المائية في المنطقة، والواردات الغذائية، والاستثمار الزراعي في الخارج في السلع الغذائية الاستراتيجية. ومن الواضح أن غالبية البلدان العربية لا تستطيع توفير جميع احتياجاتها الغذائية بسبب نقص القدرة الزراعية فيها. غير أن الأمن الغذائي العربي يمكن أن يتحقّق من خلال التكامل الزراعي الإقليمي الذي يجمع الميزات النسبية للبلدان العربية، مثل الأرض، والموارد المائية، والموارد البشرية، والموارد المالية. وتستطيع البلدان العربية من خلال نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص أن تجتمع معاً في مشاريع زراعية تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي للمنطقة بأسرها باستخدام أساليب زراعية متقدّمة يدعمها البحث العلمي والتطوير الفاعل في الإنتاج الزراعي.
العدد 4570 - الخميس 12 مارس 2015م الموافق 21 جمادى الأولى 1436هـ
انا أضيف للنظرية
يجب حساب وعزل استهلاك كل فرد أجنبي في دول الخليج من المياه الافتراضية واستيراد الكميات المناسبه لذلك الاستهلاك واعتماد البطاقة الاستهلاكية للمواطنين ليتم تنظيم عملية الاستيراد والتوزيع والاستيراد بشكل دقيق
مافهمنا شى
حبذا لو كان الموضوع اقل تعقيدا