على وقع إيقاع التقارير الإعلامية وتوقعاتها وترقب العالم إبرام اتفاق أميركي- إيراني بشأن ملف طهران النووي ورفع العقوبات الاقتصادية عنها، ثمة احتمالان لمسار الأحداث؛ أمّا باتجاه توقيع الاتفاق والتسوية وبلورة استراتيجيات يتم عبرها تقاسم النفوذ إقليمياً بالتراضي وبفرض الأمر الواقع؛ وأمّا نحو طريق مسدود يعمق الانقسام الإقليمي وينتهي بالحرب وزيادة حجم الدمار في مناطق الاحتراب.
على الرغم من طبيعة الظروف والمؤشرات التي توحي بالتوصل قريباً إلى اتفاق حاسم، لاسيما بعد ختام محادثات جنيف ومونترو مؤخراً، إلا إنها تشي أيضاً بنقيضها، وبوجود معيقات وصعوبات لا يمكن إغفالها، ودلالة ذلك تكمن في قراءة ما بين السطور لسيل التصريحات التالية.
لا تفاوض على الهواء
ففي تصريح كبير المفاوضين الإيرانيين عباس عراقجي ما يشير إلى تقدّم شهدته المباحثات النووية في مونترو السويسرية، مقارنةً بمحادثات الجولات السابقة، إلا أنه يؤكّد بالمقابل «وجود صعوبات، وأن الطريق لايزال طويلاً».
أما وزير الخارجية محمد ظريف فجدّد مطالبته بـ «رفع العقوبات الاقتصادية الغربية تماماً لا تدريجياً، وقبل إمكانية التوصل إلى اتفاق»، مؤكداً أن «العقوبات لا تتماشى مع التوصل لاتفاق، ورفعها بصورة تدريجية لا يخدم عملية بناء الثقة بدرجة كبيرة»، مشيراً إلى أن لديه وفريقه تفويضاً واضحاً للغاية من أجل رفع جميع العقوبات». كما جاء رده قوياً على سؤال شبكة (سي. أن. أن) إن كانت طهران مستعدةً لقبول التعليق لمدة عقد في برنامجها النووي الذي تصرّ على أنه سلمي تماماً؟ فأجاب: «الأمر يعتمد على تعريفك له، إذا كان لدينا اتفاق فنحن مستعدون لقبول قيود معينة لفترة معينة من الوقت، لكني لست مستعداً للتفاوض على الهواء».
ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن أشخاص مطّلعين على المفاوضات، أن «إيران والقوى الست تقترب من التفاهم، على أن الاتفاق النهائي يجب أن يتم بناءً على طلب الولايات المتحدة بأن تبقى طهران، على الأقل سنة واحدة، بعيدة عن تخزين الوقود الذي يساعدها في تصنيع السلاح النووي». ما يعني أن الأمور لازالت في حال اختمار، وأن إيران تصر على رفع العقوبات، ودونه لن يكون هناك اتفاق.
إرادة سياسية لا مفاوضات تقنية
في المواقف الأميركية والغربية التي تناولتها وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، ما يدلّل على توقعات ومؤشرات متناقضة حين عبّرت عن اعتقادها بأن «اتفاقاً جيداً بات في متناول اليد، وأنه لن يكون هناك اتفاق إن لم يكن جيداً، وهذه رسالة علينا توجيهها إلى أصدقائنا وشركائنا، ويجب قطع الكيلومتر الأخير، وهي مسافة تحتاج لإرادة سياسية أكثر منها إلى مفاوضات تقنية». كذلك صرح وزير خارجية فرنسا على هامش اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين في لاتفيا أن «المحادثات سجّلت تقدماً، لكن بشأن العدد والمراقبة ومدة الاتفاق فالأمر غير كافٍ، وبالتالي هناك المزيد من العمل يجب القيام به مع اقتراب نهاية المهلة (31 مارس/آذار الجاري)، التي قد تُمدّد على رغم رغبة الجميع في إبرام الاتفاق بحلول نهايتها».
أما الأجواء الداخلية الأميركية، فأصبحت مهيّأة لعقد الاتفاق حسب المراقبين، وهذا ما عكسته معارضة الديمقراطيين لأي تعجيل بالتصويت على مشروع قانون يلزم الرئيس باراك أوباما بتقديم أي اتفاق نووي مع إيران إلى الكونغرس لإقراره، بيد أن الشرور تكمن في موقف الحلفاء.
المقصود بالطبع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، العدو الاسرائيلي الذي ألقى رئيس وزرائه نتيناهو خطاباً استفزازياً على منصة الكونغرس، وشنّ هجوماً على إيران وأطلق تحذيراته النارية بشأن المفاوضات، إضافة إلى بلدان عربية وخليجية ممن تتلبسهم حالة قلق وتشدد حيال فكرة التوصل إلى اتفاق نهائي يبرمه الرئيس أوباما مع إيران، وهذا حتماً ينعكس بهذا الشكل أو ذاك على ارتفاع وتيرة الصراع وشدّته في العراق واليمن وسورية، خصوصاً أن دول الخليج تخشى من أن تؤدي نتائج الاتفاق إلى تخفيف الضغط الدولي عن طهران وإفساح المجال واسعاً لها للمزيد من التدخل في القضايا الإقليمية، إضافةً لاستغلالها برنامجها النووي في تطوير قدرتها على إنتاج أسلحة نووية تهدّد بها دولهم، وهو ما تنفيه طهران. لهذا جاءت زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الأخيرة للرياض واجتماعه بوزراء خليجيين، لمعالجة حالة الخشية والريبة من إبرام الاتفاق.
وقد سعى كيري إلى تهدئة المخاوف والتطمين بأن أميركا ستتخذ إجراءات تضمن عدم امتلاك إيران لأي سلاح نووي، وإن بلاده لا تسعى إلى مقايضة كبيرة معها، وإنهم لا يغفلون أية تحركات لإيران تزعزع استقرار سورية ولبنان والعراق وشبه الجزيرة العربية واليمن.. إلخ». فيما دعا وزير الخارجية السعودي طهران في سياق محادثاته مع كيري، إلى وقف تدخلاتها في الشئون العربية، وطالب بوضع نظام تفتيش صارم يضمن عدم صنعها أو امتلاكها لأية أسلحة نووية. وعليه يجوز السؤال: هل تصدقُ الولايات المتحدة في وعودها؟ والسؤال الثاني: إذا رفض الحلفاء توقيع الاتفاق، فما هو بديلهم؟
- «بديلهم الحرب، ولا أعتقد أن دول الخليج مستعدة فعلاً للحرب»، وهذا ما قاله المحلل في معهد الشرق الأوسط ستيفن سايمون.
فوضى عارمة ومخيفة
في هذا السياق، هناك حراك سعودي وجهود مبذولة منذ وفاة الملك عبدالله، إلى ترتيب البيت الداخلي وإعادة النظر في السياسة الخارجية لمواجهة «التمدد الإيراني» أو احتوائه، خصوصاً وأن التقارير تتناول متغيرات حدثت، يتعلق بعضها بمحاولة بلورة محور عربي- تركي قد يحقق التوازن مع هذا التمدد، وبعضها عن تعويم «حركة الإخوان المسلمين» التي يصنفها البعض كجماعة إرهابية، وتقديمها كإسلام معتدل مقابل جماعات الإرهاب والتكفير، إضافةً إلى ما يحدث على الجبهات السورية والعراقية من معارك واحتراب في اليمن وليبيا، ومسألة تدريب «المعارضة المعتدلة»، وعرض مشروع قرار أميركي على مجلس الأمن يدين استخدام غاز الكلور في النزاع السوري ويهدّد بفرض عقوبات على مستخدميه، في تلويح مبطن للنظام السوري، ما يعكس برأي المحللين تذبذباً في الموقف الأميركي تجاه الأزمة السورية وغيرها. فكل هذه العناصر وتلك لها تأثير في توجيه مسارات التفاوض ونتائجه، والثابت منها أن الشرق الأوسط يشهد تحولاً استراتيجياً يدعو إلى التأمل.
في خلاصة جورج قرم، في كتابه «شرق وغرب» (دار الساقي، بيروت)، كتب: «ليس النظام الجديد الذي أعقب الحرب الباردة إلا فوضى عارمة وتنافر أصوات مخيفاً، بسبب طغيان الخطاب النرجسي على الساح الإعلامي والدولي المبرر للهيمنة الغربية، والذي يتذرع بضرورة تنظيم العالم بينما يعمل على تفكيكه، وانقياده إلى سياسة القوة ورغبته العارمة في بسط نفوذه العسكري، فلم يعد مدركاً للتناقض الصارخ في المبادئ التي يعلنها لتسويق نظامه الامبريالي، حيث تظهر الأفكار الديمقراطية التي يدّعيها مجرد ديكور كاريكاتوري نافر».
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4568 - الثلثاء 10 مارس 2015م الموافق 19 جمادى الأولى 1436هـ