العدد 4566 - الأحد 08 مارس 2015م الموافق 17 جمادى الأولى 1436هـ

سكان كوسوفو الذين قاتلوا من أجل تحريرها.. يفكرون في الرحيل

الوسط - المحرر الدولي 

تحديث: 12 مايو 2017

شيدت أسرة كاكاج كثيرة العدد، بعض المنازل هنا على طول «شارع توني بلير» بين «سوبر ماركت دبي» وقاعدة حفظ السلام الفرنسية، في حالة من الاعتقاد القبلي أن التقارب يوفر الأمان. غير أنه في الآونة الأخيرة، بدأت العائلة الألبانية التي تقطن كوسوفو في الانقسام، إثر الأحوال الاقتصادية الكارثية، والسياسات الجامدة، وفتح الحدود أخيرا مع دولة صربيا، مما دفع عشرات الآلاف من سكان كوسوفو إلى مغادرة أراضيهم المضطربة بحثا عن الفرص والعمل بحسب ما افدة صحيفة الشرق الاوسط اليوم الاثنين 9 مارس/ آذار2015.

يقول خيفات كاكاج، الذي يمضي تاركا كوسوفو رفقة زوجته وبناته الخمس متوجها إلى ألمانيا: «ليس أمام ابني أي اختيار». إنهم يمتلكون بقرة واحدة فقط، كما يقول، ويكسبون رزقهم من بيع لبنها في سوق بريشتينا عاصمة الإقليم القريبة، وليس لديهم مصدر رزق آخر إلا تشغيل خدمة الحافلة الصغيرة والتي أوقفتها السلطات المحلية مؤخرا.

يقف كاكاج (64 عاما) محدقا في الأرض التي اختبأت فيها عائلته من القوات الصربية في حرب عام 1999، وقال باكيا «لا يغادر أحد لأجل المتعة».

ويقول أفريم سيلا (48 عاما)، الذي يقطن بريشتينا ويكسب رزقه من بيع الفطائر ولديه ولد انضم مؤخرا إلى قافلة المغادرين من البلاد: «كان أهل كوسوفو يغامرون بحياتهم من أجل البقاء هنا، أما الآن، فقد وصلنا إلى درجة يتوجب علينا المغادرة بإرادتنا».

عقب 16 عاما من إخراج حلف شمال الأطلسي، في حربه الوحيدة منذ نشأته، للقوات الصربية من كوسوفو حتى يستطيع 850 ألف مواطن من ألبان كوسوفو، الذين طردهم الصرب، العودة إلى موطنهم، ينعكس الآن تدفق ألبان كوسوفو إلى خارج الإقليم. فعلى مدى عدة أشهر، استمرت الحافلات في نقل ألبان كوسوفو عبر الأراضي الصربية إلى منطقة الحدود البرية التي يسهل عبورها مع دولة المجر، ضمن الاتحاد الأوروبي.

يعبر الألبان الحدود سيرا على الأقدام، ولا يتم اكتشاف عبورهم الحدود في أغلب الأحيان. وحين إلقاء القبض عليهم من قبل السلطات المجرية، لا يجري اعتقالهم إلا لفترات وجيزة. يقع الكثير منهم ضحية إغراءات ووعود المرشد الصربي الذي يدفعون أجرته، أو بسبب وجود صديق في النمسا، أو سويسرا، أو ألمانيا، أو إحدى الدول الاسكندنافية، والانتقال الحر بين دول الاتحاد الأوروبي، مما يجعلهم يشقون طريقهم إلى تلك الأماكن. لكن ألبان كوسوفو، وغالبيتهم من المسلمين، لا يجري الترحيب به، وأحيانا يجبرون على العودة إلى أراضيهم.

في محطة حافلات بريشتينا القاتمة، انخفض عدد الحافلات المغادرة ليلا إلى اثنتين من 12 حافلة. وهناك، تقف لوحة كبيرة تحمل 10 أسباب لعدم الهجرة، وأول تلك الأسباب يفيد بأن دولة كوسوفو التي قاتل الألبان من أجلها كثيرا تريد من سكانها البقاء حتى يمكن للدولة الاستمرار. غير أن إقناع الناس بالبقاء وإعادة إدماج أولئك الذين أجبروا على العودة لا يزال يشكل أكبر التحديات. ويقول صمويل زبوغار، وهو دبلوماسي من سلوفينيا ويرأس حاليا بعثة الاتحاد الأوروبي في الإقليم «أشعر أنه سيكون ربيعا قاسيا للغاية».

ولا يبدو أن هناك أحدا يعرف على وجه التحديد متى ولماذا بدأت حركة النزوح خارج الإقليم، لكن الظاهرة تثير الدهشة من حيث سرعتها وكثافتها. ودق المسؤولون في ألمانيا والنمسا أجراس الإنذار في يناير (كانون الثاني) الماضي عقب تسجيل زيادات ضخمة في أعداد ألبان كوسوفو المتقدمين لطلب اللجوء هناك.

وجاء السبب المباشر إثر فرصة جديدة لاحت عند الحدود. فمواطنو كوسوفو - على العكس من جيرانهم في البلقان من ألبانيا، ومقدونيا، والبوسنة - ليس لديهم حق الوصول إلى برامج التأشيرات الأوروبية، مما يساهم في إحساسهم بالعزلة والحرمان، حسبما أفاد قادة سياسيون وباحثون رسميون ومستقلون.

وأتاحت اتفاقيات الوساطة الأوروبية المبرمة خلال الخريف الماضي - وهي جزء من الجهود الغربية المستمرة لتعزيز التعاون بين ألبان كوسوفو والصرب - المزيد من نقاط الدخول لمواطني كوسوفو إلى دولة صربيا المجاورة وحرية العبور خلالها، فضلا عن الاعتراف الحدودي المتبادل بوثائق الهوية. ومن ثم بدأت الحافلات في الاتجاه شمالا.

وفي حين يشعر أهل كوسوفو ببريق أمل عقب الحرب الوحشية التي اندلعت مع الصرب ثم إعلان الاستقلال عنها في عام 2008، فإن كثيرين - وعلى الأخص الشباب الصغير منهم - يقولون إنهم يرون بعض الفرص القليلة تلوح في الأفق.

يساور كثيرين هناك شعور خانق ومتأصل بعدم اليقين، جزئيا، حيال وضعية الإقليم ذاته. فروسيا، الحليف طويل الأجل لدى صربيا، لا تزال غير معترفة بالإقليم، وبعض الدول الأخرى تعتبر الاستقلال إشارة إلى الانفصاليين الداخليين: الصين، على سبيل المثال، تقبع تحت ضغوط دولية إزاء تحرير إقليم التيبت وهناك 5 من أصل 28 دولة أعضاء في الاتحاد الأوروبي على رأسهم إسبانيا، التي يساورها القلق حول إقليم كتالونيا.

على الجانب المحلي، فإن إقليم كوسوفو يترنح، حيث انطلقت انتخابات يونيو (حزيران) الماضي دون تسوية لعدة شهور، حتى شق حزب رئيس الوزراء السابق، هاشم تاتشي، وهو بطل الحرب ضد الصرب الذي تلقى الاتهامات من المعارضين له في الآونة الأخيرة بالتعطش للسلطة والفساد، طريقه بقوة وصولا إلى الائتلاف الحاكم. ويشغل تاتشي حاليا منصب وزير خارجية الإقليم.

يأتي الاقتصاد كإضافة إلى مزيج المتاعب التي يعانيها الإقليم. ففي القارة التي تعاني من الشيخوخة الديموغرافية، يعتبر الإقليم أصغر الأراضي الأوروبية عمرا، مع متوسط عمر يبلغ 27 عاما لمليوني مواطن يسكنون الإقليم. تحتاج كوسوفو إلى معدل نمو اقتصادي سنوي مستحيل يبلغ 7 في المائة لتوفير الوظائف لـ25 ألفا حتى 30 ألف مواطن من شباب الإقليم ينتهون من مراحل التعليم في كل عام حسبما أفادت حكومة الإقليم. ويبلغ الاستثمار المباشر من المصادر الأجنبية نحو 270 مليون دولار في العام، وهو نصف المعدل الذي كان مسجلا في عام 2007، كما أفاد بذلك لومير عبديخيكو، المدير التنفيذي لمجموعة «ري إنفست» البحثية المستقلة.

ويقول كارل هاينز غرونبوك من وزارة الداخلية النمساوية في فيينا إن النمسا سجلت 1901 طلب لجوء من مواطني كوسوفو في عام 2014، غير أنها تلقت 1029 طلبا جديدا في يناير الماضي وحده. وبحلول منتصف فبراير (شباط)، تلقت ألمانيا وحدها 18 ألف طلب لجوء من مواطني الإقليم منذ يناير 2015.

داخل كوسوفو، سجلت وزارة التعليم 5600 حالة غياب بين طلاب المدارس. وفي ألمانيا، انخفضت حدة التدفق للنازحين من الإقليم إلى نحو 200 وافد في اليوم، من 1400 وافد في اليوم في بداية فبراير الحالي. يواجه عيسى مصطفى رئيس وزراء الإقليم حاليا تحديات تتمثل في إبقاء ألبان كوسوفو في البلاد. ويقول رئيس الوزراء، وهو من السياسيين المخضرمين، إنه يأمل في التخفيف من سخط الشباب عن طريق نشر الرياضة في المدينة وتشييد المرافق الثقافية في جميع أرجاء الإقليم - وهي المنطقة التي تكتوي بنار حرارة الصيف، ولكنها لا تزال دون حمام سباحة عمومي حتى الآن - وجهود تحسين التعليم كذلك. يقول مصطفى: «علينا تحرير الناس من تلك العزلة».

يرى كثيرون هنا الحل في تنظيم تدفق التأشيرات الأوروبية. ويقول عبديخيكو، الباحث والمحلل، إن توفير مائة ألف فرصة لأهل كوسوفو في أوروبا يمكن أن يعوضهم عن الإهمال والتجاهل: «ليس من قبيل الإنصاف أن تترك كوسوفو بقعة سوداء في قلب أوروبا طيلة كل تلك السنوات»، إنهم يقللون حتى من فرص سفر رجال الأعمال.

لكن الحكومات الأوروبية منزعجة فعلا من ارتفاع النبرات الشعوبية والقومية وشكاوى الناخبين من الهجرة من البلدان الأوروبية الأعضاء في الاتحاد مثل رومانيا وبلغاريا. كما تتوقع ألمانيا تلقي 300 ألف طلب لجوء هذا العام بعد تلقيها أكثر من 200 ألف طلب خلال عام 2014. وبالتالي ليس من المرجح إصدار التأشيرات للوافدين.

أما بالنسبة لعائلة كاكاج، فأدت المشكلات إلى الخروج ببعض الابتكارات، حيث عرض عيسى كاكاج (42 سنة) لأحد الزائرين متجره الأنيق لبيع المواد الغذائية، والذي يحتل مساحة من منزله ذي الطابقين، وحظيرة الأبقار، وبستان التفاح. ويحمل عيسى شهادة جامعية في الهندسة الجيولوجية، لكن مناجم الإقليم إما أنها ناضبة، وإما غير مستغلة حتى الآن. ولذلك فهو يعيد تدريب ذاته في مجال الطب الشرعي، ويساعد زوجته ووالده وأطفاله الخمسة بأقصى ما يمكنه.

على الناحية المقابلة من منزل عيسى هناك مجمع سكني يحتل موقعا جيدا غير أنه مهجور ويعود إلى ابن عمه الذي يعمل طوال العام في ألمانيا ويرجع لزيارتهم كل صيف، وهو من الذين يرسلون نحو 650 مليون دولار في صورة تحويلات مالية إلى إقليم كوسوفو في كل عام. ويقول شريف، والد عيسى، غاضبا: «إذا لم تكن لديك اتصالات وتعرف أناسا من المسؤولين فليست أمامك فرصة للحصول على وظيفة. إنهم لا يعنيهم إذا توفرت لك وظيفة من عدمه. المهم عندهم أنك تسدد فواتير المرافق»، ويصر الرجل البالغ من العمر (75 عاما) على أن الأمور لم تصل لذلك الحد من السوء من قبل. ويضيف قائلا: «أسوأ شيء هو أن تكون على قيد الحياة، ولكنك ميت. لو لم أكن أبلغ من العمر أرذله، لكنت غادرت بلادي بنفسي».





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً