العدد 4564 - الجمعة 06 مارس 2015م الموافق 15 جمادى الأولى 1436هـ

هل الحياة إمّا آكل أو مأكول؟

مسرحية الريف «في عرض البحر»

تصوير عقيل الفردان
تصوير عقيل الفردان

مسرحية «في عرض البحر» التي قدمها مسرح الريف على الصالة الثقافية بالجفير مساء يومي 26 -27 فبراير/ شباط 2015م، تطرح سؤالاً ثقافياً أو سياسياً أو فلسفياً بجدارة «هل الحياة إما آكل أو مأكول، هل الإنسان عدو لأخيه الإنسان، ألا يمكننا العيش بسلام مع بعضنا البعض، هل الآخر هو الجحيم فعلاً». وبالطبع لا تجيب المسرحية على هذه الأسئلة بل تكتفي بوضعنا في إطارها لنعيد النظر إلى ذواتنا والآخرين من خلالها.

ويلقي بنا المخرج هاشم العلوي في «عرض البحر» مع ثلاث شخصيات ينتهي بهم الحال إلى أنه لا بد أن يتم أكل أحدهم لمواصلة الحياة والبقاء، فيا ترى من سيكون الآكل ومن المأكول، وما دلالة فعل الأكل، وكيف ستتجه المسرحية لاختزال شخصياتنا المتنوعة في هذه الحياة إلى ثلاث شخصيات أساسية، تم تكثيفها في شخصية القوي الذي مثله مهدي سلمان، والضعيف ومثلها عمر السعيدي، والانتهازي ومثلها علي يحيى، بينما حضر كل من مصطفى القرمزي، ويحيى عبدالرسول في شخصية ساعي البريد والمدرب كشخصيتين مساعدتين كان لهما وظيفة جانبية ستتضح لاحقاً.

الجمهور داخل العلبة

للمرة الثانية يتم عرض المسرحية لمؤلفها سلافومير مروجك، حيث عرضت سابقا ضمن مهرجان مسرح الريف الثامن وتعرض هذه المرة مستقلة، مع تغيير طفيف لكنه دال حيث خرج مخرجها العلوي من العرض وأدخلنا كمشاهدين إلى العلبة مباشرة وصارت الأحداث تجري بين أيدينا وصرنا نشاهد الممثلين عن قرب بل نسمع أنفاسهم وتأوهاتهم ونرى تقاسيم وجوههم وهي تعيش الحالات المختلفة مباشرة، فما سر ذهاب المخرج لهذا الخيار ماذا أرادنا أن نشاهد عن قرب، وما دلالة دخولنا وسط اللعبة.

ليس من شيء أدل على مشاركتنا في الفعل المسرحي من انتقالنا إلى الخشبة وكأن المخرج بهذا الخيار أراد يقول أن هذه الشخصيات هي ما نحن عليه وما نعيشه يومياً فما الإصرار على فعل الأكل الذي تتصارع عليه الشخصيات الثلاث سوى إصرارنا على الصراع في هذه الحياة من أجل البقاء عبر فعل الأكل المتراوح في المسرحية بين الأكل الحقيقي والأكل المجازي، وهو ما ذهبنا إليه في تحليل العرض الأول من رمزية فعل الأكل وقراءته قراءة ثقافية تحيل فعل الأكل في ثقافتنا إلى تجذر فكرة الغلبة فالقوي المنتصر آكل، بينما الضعيف المهزوم مأكول، وهذا ما نعبر عنه في فعلنا اليومي. المسرحية تعبر عن حالة الصراع الكامنة في ثقافتنا بل وتنقدها وترينا إياها عن قرب، وبالرغم من أن قربنا هذه المرة أدخلنا في اللعبة مباشرة، إلا أنه حرمنا من نعمة مشاهدة المسرحية عن بعد بصورة كلية وغاب عنا ما استمتعنا به في المرة السابقة من رؤية أثر الأضواء في تشكيل المشهد، وصنع صورة بصرية إيقاعية تتمازج مع وظيفة كل مشهد من المشاهد المتغيرة والمتصاعدة.

الأكل كفعل سياسي

في هذا العرض الثاني تم التركيز بشكل أكبر على الاستكناه السياسي لفعل الأكل، حيث تبدى من خلال لعبة الانتخابات وعدم قدرتها على تخليصنا من آفة الاستقواء على الضعيف، حيث يبقى القوي مصراً على ألعابه السياسية بدهاء واستخدام نفوذه لإعادة توجيه الفعل الانتخابي لصالحه أو محاولة التشكيك في سير العملية الانتخابية إذا لم تصب في صالحه وتمكنه من أكل الآخرين سياسياً. هكذا حتى الانتخابات التي هي مقدمة للديمقراطية تفشل في حسم الصراع بين القوي والضعيف، في محاولة من الدكتاتور أن يرينا أن فشل خيار الديمقراطية بإفشاله لمقدمتها وهو خطأ في التفكير، مردود عليه فليست الانتخابات هي كل الديمقراطية بل هي مجرد مقدمة وتم العبث فيها بزيادة الأوراق. وهذا الخطأ في التفكير هو مغالطة مقصودة لتشويش العقل وإبعاده عن هذا الحل المثالي في حسم أو التقليل من حجم الخصومة. وهكذا يظل الصراع المسرحي مستمراً في البحث عن وسيلة أخرى لتحديد من هو الضحية من هو الآكل ومن هو المأكول.

لعبة السرد والتحبيك

في المسرحية أيضا لعبة أخرى هي لعبة السرد وإعادة السرد المرة بعد الأخرى لتقديم رواية خاصة تنجينا من الأكل، إذ تتوجه كل شخصية إلى محاولة استدرار دموع الأخرى، ومحاولة كسب تعاطف الجمهور، كونها عاشت شظف العيش وقاست ما قاسته من ألم اليتم والحرمان ولم تحصل على رغد الحياة، وقد ضحّت سابقاً وآن لها أن تعيش وتستمر في الحياة. تلجأ كل شخصية لنفس الآلية برواية سيرتها الأليمة للنجاة من الأكل وانتزاع حق البقاء والفوز بصكوك النجاة من الموت. وهكذا يتم تجريب واختبار آلية أخرى غير آلية الديمقراطية من أجل الحسم لكنها أيضا لا تنجح فلكل منا دائما روايته وسرديته المغرضة التي يستطيع عبر تحبيك أحداثها وإعادة ترتيبها أن يقدمها في شكل مأساوي مقنع بالنسبة له على الأقل للنجاة من الأكل في مقابل الاستمتاع بأكل الآخرين ومواصلة حياته بضم حيواتهم إليه. الجديد في هذه المرة أيضاً أن الشخصيتين المساعدتين وهما ساعي البريد والمدرب اللذين حضرا وسط العرض كانا أكثر إقناعاً عما سبق من عرض حيث بدوا في هذا العرض الجديد كأنهما مجرد استدعاء ذهني في مخيلة الشخصيتين من أجل تبديد أدلة كل منهما حينما يسردان حكايتهما وتاريخهما لكسب ود الجمهمور ومحاولة الهروب من المصير المحتم فكان دخول الشخصيتين دخولاً متخيلاً أكثر منه فرضية حقيقية كما بدا في المرة السابقة.

النهاية المفتوحة

الأمر الجديد في هذا العرض أيضاً البحث عن نهاية أخرى وهو ما يحسب للمخرج إبداعياً وهي غير النهاية السابقة التي استنتجنا منها سابقاً مقولة «أما الأكل أو الفناء» حيث تأتي العاصفة كفعل حاسم لإبادة الجميع. فإذا كان للثلاثة حساباتهم فإن للطبيعة حساباتها أيضاً. ولكن ما يحسب للمخرج هذه المرة أنه اقترح علينا فعلاً آخر ربما كان سيؤخر فعل الحسم النهائي الذي كان يصر عليه الشخص القوي وهو التهام الضعيف ومحاولة إقناعه بالتضحية بأي طريقة، حيث يظهر لدينا متغير جديد، وهو اكتشاف وجود الأكل مخزّناً في الصندوق، وهو ما يمثل مفارقة يمكن استثمارها لمواصلة جزء ثان في المسرحية لنا أن نكمله بأنفسنا، وهذا يذهب بالعرض إلى صنع نهاية مفتوحة على احتمالات أخرى قد تغيّر من طبيعة الشخصيات وخصوصاً حين يعرف الضحية أنه تم استغفاله ومحاولة إقناعه بالتضحية في ظل علم الشخصيتين الأخريين بوجود الأكل وإخفاء ذلك عنه ليتجدد الصرع على نهايات مفتوحة لا ندري بطبيعتها فربما يتحول الضحية من جراء الصدمة إلى حالة من الوعي بذاته والبحث عن طريق آخر للمقاومة وعدم الاستهواء لسلطة القوي.

العدد 4564 - الجمعة 06 مارس 2015م الموافق 15 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:17 ص

      ناقد متميز

      كيف استطاع هدا الناقد الصحفي ان يستدعي كل هدا الكم من الشوارد والافكار انه ناقد متميز

اقرأ ايضاً