العدد 4564 - الجمعة 06 مارس 2015م الموافق 15 جمادى الأولى 1436هـ

المرأة قبل النفط

زاوية أسبوعية ننشر من خلالها كتاب Women Before Oil (المرأة قبل النفط) وهو من تأليف لونا العريض وترجمته إلى اللغة العربية منال العريض.

لماذا قررت أن أكتب عن المرأة قبل النفط؟

كوني امرأة عايشت وعاصرت الحياة في البحرين، وهي تتغير منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي إلى يومنا الحالي، أحسست بحاجة ماسة إلى أن أكتب وأسجل شيئاً عن الماضي.

فأنا إنسانة محبة للطبيعة، ومحافظة بعض الشيء. لقد نشأت في بيئة راهبات وأحببت الحياة الهادئة في أواخر السبعينات عندما كنت طفلة صغيرة تلعب بكل فرح في أزقة المنامة.

كنت صغيرة جدّاً، لكن أتذكر أنني شاهدتُّ نساء مسنات مثل أم باقي (المرأة القطيفية التي كانت ترتدي الرداء والمداس)، وأم وافد (المرأة العراقية التي كنت أساعدها على عبور الطريق إلى منزلها في الخميس). كانت لتلكما المرأتين منازل في المنامة في فريق المخارقة في أحد الأزقة الضيقة، وكانتا تأتيان إلى زيارة أم جعفر (طيبة العليوات)، وهي زوجة خال أمي وعم أبي عبدالنبي العريض. كانتا يمران عليها ويمشين بعض الخطوات إلى مأتم السادة كل ليلة.

عندما انتقلنا إلى منزلنا في مدينة عيسى، وكان يقع بالقرب منَّا مركز لتأهيل المسنين (دار عجزة) خلف بيتنا مباشرة، ولذلك كنت أشاهد الممرضات وهن يعتنين ويطعمن كبار السن. كان ذلك المشهد غريباً عليَّ لأنني كنت اعتقد أن وحدهم الأطفال هم من يُطعَم ويُرعى من قبل الكبار. منذ البداية كان لدي إحساس بالشفقة تجاه المسنين. لم أكن أفهم أو أتقبل طول العمر وكيفيته. لكن عندما رأيت أمي وهي تكبر في السن وتمرض تدريجيّاً أصبح الأمر أسهل بالنسبة إلي. كان ذلك لمجرد بضعة أشهر بالنسبة إلى أمي لكن ما حدث وضعني في مكان تلك الممرضات اللواتي كنَّ يعتنين بكبار السن.

كلنا نمر بالحلقة نفسها، وإنه أمر طبيعي أن نكبر ونرجع إلى مرحلة الطفولة مرة ثانية. أنا أتصور ما إذا كنت أنا الوحيدة التي تشعر بهذه الشفقة، لكن في اعتقادي، كثير من الناس يشعرون مثلي. إن الحياة ليست دائماً تلك المملوءة بالصحة والقوة، والإنسان لابد أن يضعف ويكبر مثل كل شيء في الوجود.

إنه من خلال العمل الدائب والدعم المستمر الذي يعطيه الإنسان للمجتمع، فإن هذا الشيء طبيعيّاً يضعفه، ولابد في النهاية أن يشيخ ويموت. وفي المقابل، فإن المجتمع لابد أن يُقدِّر هذه المساهمات، ويوفر له الدعم الجيد وخصوصا إذا وصل إلى مستوى ليس باستطاعته أن يقوم باحتياجاته الأساسية.

والمرأة كونها جزءاً من هذا المجتمع، كانت لمدة طويلة من الزمن مهملة، وهذا الشيء هو الأكثر في مجتمعاتنا العربية والمسلمة التي هي محافظة كثيرا في خطواتها. صحيح أننا نعيش في عالم ذكوري لكن المرأة أيضا تلعب دوراً كبيراً في بناء وتنمية المجتمع. وانه أكثر صحة أن تعيش المرأة أطول عمراً من الرجل، وأن الحمل والولادة يجعلان المرأة تفقد الكثير من صحتها، وهذا يؤدي إلى انهيار جسمها عندما تكبر في السن.

الكثير من الكتب تتكلم عن الرجال ومنجزاتهم، لكن القليل منا يؤرخ للنساء ودور المرأة في الحياة، وكذلك حياتهن الخاصة وأحاسيسهن التي دائما تكون مخبأة وراء الأبواب. لهذا فكرت في تأليف كتابي هذا وأخذت على نفسي أن يترجم الكتاب إلى العربية بواسطة منال العريض حيث كتبته بالانجليزية؛ لأني وجدت مواد كثيرة مشوقة قد تعجب الناس، وخصوصا الذين يتكلمون العربية، وإن الجيل الجديد من القراء يحتاج إلى التعرف على تراث مضمور.

لقد قمت بجولة ميدانية في البحرين، وقابلت أكثر من خمس عشرة امرأة مسنة كلهن من مواليد ما قبل 1932م، من عشر قرى بحرينية ومدينتين هما المنامة والمحرق، والقرى هي: كرزكان، عالي، داركليب، المالكية، بني جمرة، الدراز، الديه، سترة، الدير وعراد. وكذلك كتبت عن جداتي لأمي وأبي وعن عمتي، وذلك من خلال أبنائهن الذين سردوا لي أحداثاً حياتهمن، وخلال انشغالي بتأليف هذا الكتاب توفيت خمس أو ست من تلك النساء. كنت محظوظة؛ لأني انتهزت الفرصة للالتقاء معهن والتحدث إليهن، حيث إن كل واحدة منهن لديها تجربة خاصة تتحدث عنها.

أنا أعتقد أن أهم جزء في الكتاب، هو الفصل الأول الذي دونت فيه مقابلات شفهية مع النساء المسنات. كلمات أولئك النسوة في مضمونها تعطي الصورة التي أرغب في أن أسمعها. وعلى رغم كثرة ما اقرأ ستظل الشفاهية أصدق شيء يمكن أن نخرجه إلى المجتمع.

لقد اخترت نماذج من النساء من أعمار متقاربة ومن بيئات ومجتمعات متباينة؛ لكي ألقي الضوء على حياة المرأة في مختلف أدوارها الحياتية والمعيشية، وتلك الأمور التي تتعلق بشئون المرأة من الولادة حتى الممات وهو مسار الإنسان في فصل حياته الواحد الذي تتعدد فيه المشاهد والصور التي تؤلف حياة الكائن الحي والفوارق الاجتماعية من حيث العمل، الفقر والغنى، واكتساب المعرفة.

إن الفصول التالية تتكلم بالتفصيل عن حياة تلك النساء وكل واحدة بحد ذاتها تشرح العادات والتقاليد والطعام واحتفالات الزواج كذلك الملابس والطب والنذور والمناسبات الدينية والأدوار الأساسية التي أخذتها النساء في زمنهن من خلال تجربتهن الحياتية.

لقد اخترت هذه الفئة العمرية للنساء؛ لأنهن عشن حياة مخضرمة، ومازلن على قيد الحياة للحديث معهن عن تجربتهن. لقد عاشت أولئك النسوة خلال موسم الغوص الذي عاصرنه وشاهدن الطفرة النفطية والتغير الذي حصل في التراث والتقاليد الخليجية والبحرينية. كونهن نساء فقد شاهدن تغيرا ملحوظا مع بداية التعليم النظامي المعاصر والتغير الواضح في مجال العمل لدى المرأة في المجتمع.

ولما كانت القرية تتألف من مجتمع خاص، فكان لابد لي من وضع المقارنات في لهجات كل قرية على حدة من حيث قربها أو بعدها عن المدينة. درست المرأة كونها أمّاً وعائلة وحاجتها إلى العمل لمساعدة زوجها وعائلتها في المعيشة، وخصوصا إذا كانت أرملة يلزمها الخروج من المنزل للقيام بدور المسئولية للإنفاق على أولادها أو أسرتها.

وتطرقت في هذه الدراسة إلى الهوايات التي تمارسها المرأة في النشاط الاجتماعي، كالتعليم والقراءة في المناسبات الدينية في المجتمع الشيعي «المآتم». وهذا يعتبر عملاً و»دخلاً» إضافيّاً من المال لأولئك اللواتي يحبذن الخطابة الدينية في المجتمع الشيعي الذي هو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوجدان والفكر والمعتقد عند الشيعة. صادفني في دراستي هذه خلال زياراتي لهذه القرى اختلاف اللهجات عند الحديث لبعض النساء الكبيرات في السن وهذه المجتمعات الصغيرة، وخصائص اللهجة البحرانية، ومن هذه الامثلة:

ثروة (فروة)، حدث (حدف) ثلاثة (فلافة).

وهناك العديد من الكلمات التي تختلف من قرية إلى أخرى، ثوم (فوم)، ثوب (فوب).

ومن الظواهر الصرفية في اللهجة البحرانية التميز القائم بين ضمير المتكلم المفرد (أنا) ونظيره المؤنث (أني) واستخدام أسماء الاشارة.

(هاك) و(هيكه) في لغة الحريم وخصوصا في قرية الدراز، وإن هذا اللفظ لا وجود له في المنامة. ومن عادات الرجل عندما يسأل عن زوجته لا يذكر اسمها إنما يقول وين «هيكه» أي تلك، المقصود هنا (زوجتي).

الكثير قد ينظر إلى النساء على أنهن مهملات ومحافظات إلى درجة معينة قبل النفط، وقد اثنين على جهد التعليم المعاصر والطفرة النفطية والتغير في تفكير الناس الذي ساهم بطريقة جبارة في ارتقاء النساء ليأخذن أدوارا مهمة في المجتمع. لكن هذا لم يكن فقط للنساء؛ لأن الرجال كذلك اخذوا دورهم في المجتمع.

أنا أوافق تماما مع ما حصلت عليه النساء من تحسن في المكانة الاجتماعية. لكن لابد أن أشير إلى أن النساء كذلك والمجتمع ككل خسر الكثير من القيم والمبادئ مع المجيء بالتقنيات الحديثة التي جعلت المجتمع يعتمد على الآلة إلى درجة أنه أصبح يشعر بأنه مجرد جماد، وقد خسر ذاته شيئا فشيئا.

إن قراءة هذا الكتاب سترجع لنا تلك الأيام للبحرين الهادئة عندما كانت الناس تمشي لفترات طويلة، والنساء في المناطق الريفية يُشاهدن بمشامرهن الملونة يمشين مع الماشية ويغسلن الأواني في العيون الطبيعية، عندما كان المسنون لا يحتاجون إلى كرسي متحرك ولا يدخلون في غيبوبة في المستشفيات لعشرات السنوات، عندما كانت الطبيعة تُحترم والله يُعبد، والناس ينامون عند الغروب ويصحون مع الفجر.

العدد 4564 - الجمعة 06 مارس 2015م الموافق 15 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً