يحتار المرء من أين يدخل إلى شخصية بوزن المرحوم عبد الكريم عبدعلي العليوات، فهو شخصية ليست عادية وبالتالي يصعب أن تتعرف إليها من مدخل واحد أو من منظور واحد، ويزيد من صعوبة ذلك أنه شاهدٌ على حقبة مهمة من تاريخ البحرين، وفاعلٌ فيها بهذا القدر أو ذاك.
أما مناسبة الكتابة بالنسبة لي فأمران، الأول: غير مباشر، وهو معرفتي به بشكل غير مباشر منذ منتصف الثمانينيات حيث كنت زبوناً دائماً لمكتبته وتنقلاتها من مكان لآخر، حتى مقرها الأخير قرب جهاز الامتحانات القديم في السلمانية، وكانت لي معه لقاءات عابرة خلال هذه الفترة. والثاني: مباشر وهو معرفتي به عن قرب ابتداء من 1992 حتى رحيله، وذلك من خلال زواجي بإحدى كريماته (يسرى)، أي قرابة ربع قرن من المعرفة المباشرة والحميمة وغير العابرة.
وفي خلال هاتين الفترتين من العلاقة اكتشفت أشياء كثيرة ومهمة في حياة هذا الرجل غير العادي، وهي أشياء جديرة بالتقدير والاهتمام والتذكير والتوثيق.
فعلى الصعيد الشخصي، أول ما يلفت نظرك عندما تتعامل معه، تلك البراءة البادية على محيّاه والتي تكتشف في إثرها أنها براءةٌ في شخصه ونفسه، وقد تجلّت في وجهه، أي براءة شخصية أصيلة وحقيقية وليست مصطنعة أو مستعارة. وفي ضوء تلك البراءة كانت علاقته مع كل من تعامل معه محل احترام وتقدير.
وفيما يبدو أن البراءة تجلب معها سمات وصفات شخصية من جنسها، ومن بين الصفات الشخصية للمرحوم هي الحنان والتعاطف مع الآخرين عموماً ومع ذوي الحاجات خاصةً، والتحسّس لآمال وآلام وتطلعات الآخرين ومد يد العون لهم. ولديه شعور غريزي بما يرغب فيه الآخرون دون أن يعلنوا ما بداخلهم.
وباستطاعة المرء أن يلاحظ صفات ومناقب كثيرة من بينها أنه قليل الكلام، هادئ لأبعد الحدود، ولكنه حاسمٌ وحازمٌ إذا ما تطلب الموقف أن يكون كذلك. كما أنه من العاملين بصمتٍ دون أن يتحدّث عن نفسه.
أما على صعيد العلاقة الأسرية، فقد لاحظت وعايشت علاقاته مع كل أفراد أسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة (العليوات)، فهو قدوةٌ لهم جميعاً وأب متميز في علاقته بأبنائه، يتحسّس كل صغيرة وكبيرة في حياة أسرته وعائلته فرداً فرداً.
وفيما يخص علاقته بأزواج بناته فكان كالأب، حيث عاملهم كأبنائه وليس أزواج بناته، ولم يكن كذلك فقط مع الأزواج بل كان بمثابة الأب لزوجة ابنه حيث كانت على قدر كبير من التقدير والاحترام من قبله، فكان أباً للجميع وكريماً مع الجميع.
ولم يتوقف عطاؤه الإنساني عند هذا الحد، حيث غمرت عواطفه ومناقبه أحفاده من البنين والبنات، حيث كان يتحسّس احتياجاتهم الروحية/ النفسية والمادية على حد سواء، ويغمرهم بكل ما لديه من كرم.
والراحل ذو نفس عالية وشريفة، انطلاقاً من سلوكه المستقيم وثباته على المواقف الأخلاقية المبدئية، التي لا تساوم ولا تهادن. فهو ومن خلال علاقتي به لا يمسك العصا من الوسط، ولا يحب المواقف الضبابية أو الرمادية، فدائماً ما كان واضح الرأي والرؤيا، ولا يحب أنصاف الحلول. وهنا ربما اعتبره البعض أنه حاد المزاج بسبب المواقف الحدية. يضاف إلى ذلك أنه صادق دائماً في صداقاته وعلاقاته، ولا يربط تلك الصداقات أو العلاقات بمصالح شخصية أو أنانية أو انتهازية، فهو يصادق من يصادق لأشخاصهم ولمناقبهم الأخلاقية وليس لشيء آخر. كما كان يتسم بالقدرة والتمييز الحكيم في اختيار أصدقائه، لذلك نجد أن أصدقاءة القريبين جداً لا يتجاوزون عدد أصابع اليد.
أكثر من ذلك أنه قليل الشكوى حتى من أولئك الأصدقاء الذين لم يحافظوا على صداقته، وبعضهم ربما نكث بتلك الصداقة ولم يشكُ من غدر بعض من تعامل معهم في مسيرة العمل أو تخلوا عنه أمام بريق الإغراءات وسحر المال والوعود، فظلّ في كل الأحوال يتذكّر الجانب الايجابي من تلك الصداقات والعلاقات.
قلت أن من صفاته الشخصية الصمت، لكنه الصمت الذي يشبه اللغة في بلاغتها، لأنه صمت الشخصية الممتلئة التي في جعبتها الكثير من الأشياء المتزاحمة دون أن تفصح عنها.
هذه مجرد بعض الجوانب من الصفات الشخصية التي كانت تميّز المرحوم، ولكن شخصيته لا تتوقف عند ما هو شخصي أو ذاتي، بل تتجاوز ذلك إلى ما هو عام وموضوعي. ولا أذيع سراً عندما أقول أن عبدالكريم العليوات بقدر ما هو شخصية متميزة على الصعيد الذاتي، فهو كذلك متميز على الصعيد العام والوطني، حيث عاصر مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ البحرين الحديث، ومرّ بمحطات متتالية في هذا التاريخ.
ويمكن أن نشير بشكل عابر إلى بعض تلك المحطات، وهي محطات تجلت منذ البداية في انتمائه إلى عائلة وطنية (العليوات)، وابن أحد الشخصيات المهمة في تاريخ الحركة الوطنية (عبدعلي العليوات)، وقد كان فاعلاً وشاهداً على حركة هيئة الاتحاد الوطني، بل كان عارفاً بتفاصيلها وبشخصياتها تمام المعرفة، ولديه كثيرٌ من المعلومات التي ربما لم يدوّنها في مذكراته سواءً بالهيئة ككيان والظروف التي واكبتها، أو بشخوص الهيئة وأدوارهم الفعلية.
أما الشيء المهم في مسيرته فهو تحمله مسئوليات العائلة عندما نُفي والده وقد أصبح عميداً للعائلة وهو في ميعة الشباب، وتحمّل عبئاً ثقيلاً، أثبتت الأيام أنه كان كفؤاً لتحمله. فقد كان في مثل هذه الظروف التي نُفي فيها أبوه بمثابة الأخ والوالد لعدد كبير من الإخوة والأخوات والأبناء والبنات والأهل والأقارب.
وإذا كانت محنة نفي الأب قد فرضت على عبدالكريم تحمل المسئوليات التي كانت في عهدة والده، فإن الابن قد برز قبل ذلك ومنذ منتصف الأربعينات كشخصية عامة في ميدانين مهمين، هما تدشينه للمكتبة العامة حيث كان أول رئيس لها في سنة 1946 أولاً، وحضوره في فعاليات نادي العروبة ثانياً.
واتسم وهو في سن مبكرة (حوالي 1948) بحس سياسي وطني معارض إزاء الانكليز، وقد تمثل هذا الموقف في رفضه دفع مبلغ من المال للاحتفال بعيد ميلاد تشارل بلغريف، حيث رفض أن يحتفل بعيد ميلاد شخصية استعمارية يرى أنها سبب كثير من المشاكل التي كانت تعاني منها البلاد حينذاك.
واستمر المرحوم في نهجه الوطني دون مهادنة أو مساومة، متخذاً من النشاط الثقافي المتمثل في استيراد وبيع الكتب، وكذلك نشر الكتب وتنظيم المعارض السنوية التي يعتبر رائداً فيها على صعيد البحرين، واستمر ذلك قبل الاستقلال وبعده.
وبالارتباط بالمسئولية الوطنية التي وجد نفسه فيها، ساهم في صياغة أول دستور للبحرين بعد الاستقلال، وذلك بانتخابه عضواً في المجلس التأسيسي في العام 1972. كما خاض انتخابات المجلس الوطني ولم يحالفه الحظ.
كانت له علاقات واسعة مع الكثير من الشخصيات السياسية والثقافية والفكرية على الصعيد العربي والعالمي وخصوصاً تلك الشخصيات المرتبطة بصناعة وتسويق ونشر الكتب وتنظيم المعارض. وكان عضواً في كثير من المؤسسات من بينها اتحاد الناشرين العرب والعالميين وكذلك اتحاد الموزعين العرب.
استمر يزاول تجارة الكتب حتى سنواته الأخيرة، والتي تعرّض فيها لسحب بعض الوكالات، وهو الذي كان وكيلاً على امتداد أكثر من نصف قرن للعديد من دور النشر والصحافة العربية والعالمية. ومع ذلك لم يشكُ مما تعرض له. فقد آثر الصبر والانسحاب بهدوء كما عاش وعمل بهدوء ودون ضجيج أو طلب للشهرة، مع أنه كان يتابع أوضاع البلد وتحولات الأوضاع السياسية والاجتماعية.
هذه مجرد شذرات من حياة العم عبدالكريم العليوات الحافلة بالإنجازات والإحباطات، وهي حياة مليئة بالأسفار حيث زار معظم دول العالم. لكنه عندما أحس بدنو الأجل كان يقول لبناته: ماذا لو متُّ وحدي ولم يكن أحد معي، إنني أخاف، ماذا ستفعلون؟ فدَعَيْن له بطول العمر.
إلا أن للأقدار رأياً آخر، فقد مات وكان أفراد أسرته حاضرين، بناته وولده سمير وأزواج بناته وأحفاده من البنين والبنات، وقد تحلّقوا حوله وهو يسلم الروح في الساعات الأولى من صبيحة يوم الأحد 25 يناير/ كانون الثاني 2015 في المستشفى. وكان موتاً رائعاً لأنه تمنى هذا النوع من الموت - وقد تحقّقت رغبته - الذي يكون في حضرة الأهل والأحباب لحظة بلحظة، وليس بعيداً عنهم. موت رائع لرجل رائع. رحم الله العم عبدالكريم عبدعلي العليوات.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 4564 - الجمعة 06 مارس 2015م الموافق 15 جمادى الأولى 1436هـ
رجل العلم والثقافه
الله يلرحمه رحمة الابرار لقد كان سندا للشباب الذين يزورةن مكتبته لشراء الكتب ذات يم اخترت كتب وكان المبلخ كبير ولايتوفر عند ذلك اليوم فخترت كتب منها حسب المبلغ الذى فى يدى وتركت الكتب الاخرى فادرك انى ان املك المبلغ كله فخاطبن ولدى كم عندك ادفعه ومتى صار المبلغ عند ادفعه او سدده وخذا الكتب كلها فرفضت ولكنه اصر على واخير وافقت وفى الاسبع الثانى يوم الجمعه سددت المبلغ عندها سالنى ما تحتاج الى المبلغ وانت فى السوق اذهب وتسوق وما بقى معك سدده فقلت له الحمد عندى واقبل المبلغ فقبل
اب وعم حنون
الله يرحمك يا ابي وعمي ابو سمير برحمته الواسعه
كنت كالجبل وحنون وكريم كأسمك على كل من حولك
رحيلك عن هذه الدنيا الفانيه سبب لنا حزنا عميقا
الفاتحه
رحمه الله
الله يرحمه