تناول عمود الاثنين الماضي وحمل عنوان «انتهاء عصر احتكار المعرفة والمعلومة»، تشابك وتكامل الدور الإعلامي لدى بعض المؤسسات والأجهزة في ظل الأنظمة الاستبدادية، ويتناول الجزء الثاني منه تعرُّض العالم منذ مطلع الألفية الثالثة، لإعصار الإرهاب في صورته الأممية؛ وخصوصاً في منطقتنا؛ وارتفاع حدَّة سعار الجماعات التكفيرية التي وجدت لها حاضنات في بعض الدول، بادئ الأمر؛ وانتقال تلك الحاضنات، تبادلاً للأدوار، إلى بعض المنظمات الأهلية؛ وتفعيل التحريض على الطوائف تمهيداً لمحارق وكوارث لا يعلم نهاياتها إلا الله؛ ودور المكنة الإعلامية في كل ذلك السُعار.
إذ صار الإرهاب بمثابة أكثر من فرصة لبعض تلك الأنظمة لتفعيل وتحديث أجهزتها مع المتغيرات التي حصلت في العالم، والعودة إلى المربع الأول، مع ترهُّل وانكشاف زيف شعارات حقوق الإنسان التي رفعتها دول كبرى وصغرى في العالم بعيداً في حدودها عن هذه الملهاة، والخسارات التي يمكن أن تترتَّب على الذهاب بجديّةٍ في الضغط على هذا الملف، على حساب المصالح، والفوز بكعكة توريد السلاح، والطاقة التي تدخل عصر وصفها بالرخيصة في وقتنا الحاضر على الأقل؛ بحيث يمكن أن يتعرَّض المشتغل أو المهتم حتى بالقضايا البيئية إلى الاتهام بالانتماء إلى تنظيم إرهابي. ولن يقنع بعض الذين لا يحتاجون إلى إقناع إلا عودة الإعلام إلى طرقه وأساليبه المتخلِّفة والمتناقضة مع القانون الدولي، في اللعب على النغمة تلك، وتقديم الصورة التي يراد تقديمها، تشهيراً وتهويلاً وتخبّطاً واستهدافاً لمكونات وفئات بعينها، وحجب الحقائق، والتغاضي عنها واستبعادها عن دائرة التشهير والتهويل، ضمن مكونات وفئات أخرى.
وتخْرج عليك وزارات التعليم بإحصاءات تقدُّمها في محو الأمية، لكنها لن تُحدِّثك عن الأمية التي تعاني منها المناهج المتخلِّفة التي لم تعد تناسب العصر، والتخصصات التي لا علاقة لها بمخرجات سوق العمل. لا تُحدِّثك عن الأسباب - وحتى اليوم - الكامنة وراء انهيار المنظومة التعليمية؛ إذ وضمن بلداننا، يتم البحث عن فائض بطالة في دول لا تخلو من أمية، مع بطالة لا يتم التحدث عنها إلا في حدود الطمأنة والثقة الزائفة، وبات حتى غير اللبيب بالإشارة وغير الإشارة يفهم المقاصد والمرامي من وراء كل ذلك.
حتى وزارات البيئة في ظل أنظمة كتلك، لها خططها في التغييب، ومواراة الواقع البيئي الذي يتنفس من خلاله الناس، وتتسلل منه الأمراض القاتلة، وببطء تتكشَّف نتائجه بعد سنوات، ليتفعَّل الحلف المُقدَّس بينها وبين وزارات الصحة التي تنفي التهمة عن ارتكاب البيئة المخنوقة والملوثة والمحاصرة بالمصانع الكيماوية، أي جريمة، ولا علاقة لها بانتشار الأورام، والخلل في الجهاز التنفسي للمواطن، الذي تدل كل التقارير على أنه يتمتع بصحة جيدة، وبنية رياضية؛ ولو كان بوزن لا يصمد أمام تيار هواء عابر!
وللإعلام أدواته في كل تلك الممارسات والتواطؤ، وفي أحسن الأحوال الصمت. وفي الصمت كلام كثير مفاده أن المواطن في هذا الجزء من العالم لا قيمة له! وقِسْ على ذلك أجهزة مرئية، وأخرى لا يُراد لها أن تُرى لا بالعين المجرَّدة، ولا بالميكروسكوب.
كل تلك الأجهزة تظل جزءاً لا يتجزَّأ من الخريطة والمنظومة الإعلامية التي تمارس أدوارها في التضليل والكذب وليِّ الحقائق، وحجب المعلومة، وتقطير المعرفة تقطيراً، مادامت لا تسبِّب أذى ولا تنال من «أمن الدولة»!
صار الجزء الأكبر من مواطني هذا الجزء من العالم في يومنا، يشرفون ويديرون الإعلام الذي يريدون الوصول إليه، والمنافذ التي يسعون إلى دخولها، والقنوات التي لا تتلاعب بخيارات الناس، وصار جزء منهم يميِّز بين الخبيث والطيِّب في ما يُقدَّم إليه، ولم يعد مُستوعَباً للقمامة أو سواها، قابلاً لأن يُملأ، دون أن يملك حق تأكيد أنه إنسان وليس مُستوعَباً أو وعاء تُحدِّد جهات سعته واكتفاءه وطاقته وقابليته.
ولَّى زمن الحجْب أمام هذا الفضاء الذي صار مكشوفاً بعد أن كان سريّاً، وضمن واقع منطقة محدَّدة في العالم، ولعقود طويلة.
ولَّى زمن كتابة خبر الحدث قبل وقوعه بأيام ومن ثم نشره. ولَّى زمن بطاقات تموين صرف المعلومة، ومعرفة ليست سراً من أسرار الأمن القومي.
وفي تلك الحمَّى من الهوس واليقين من جانب الأنظمة بأن المتهم عندها يظل متهماً حتى بعد صدور حكم ببراءته، لم تترك وسائل إعلام خارج الحدود فرصة التلاعب بذلك الوعي أيضاً ومحاولة احتوائه وتوظيفه، والإمعان في تعميق الصورة النمطية والمُشوِّهة لإنسان هذا الجزء من العالم.
هل نحن إزاء انتهاء عصر إعلام الدول الوطنية؟ ذلك ما بدأ فعلاً وإن ظلت منافذ ووسائل الإعلام الأخرى خارج سيطرة وهيمنة تلك الدول - ظاهراً - إلا أن أجهزة دول الاستبداد قادرة على أن تكون محدِّثة لقدراتها على الاختراق، والتجسُّس، وإخضاع تلك المنافذ والوسائل لسطوة قوانين تؤمن بـ «اتخاذ الإجراءات اللازمة»! وللأخيرة قصة تطول!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4562 - الأربعاء 04 مارس 2015م الموافق 13 جمادى الأولى 1436هـ
مقال جيد
شكرا....