انشغلت وسائل الإعلام مؤخراً بحادثة اغتيال المعارض الروسي بوريس نيمتسوف، حيث صدر سيل من تصريحات الإدانة، قابلها سيلٌ آخر من إعلانات النفي. تعدّدت التحليلات والتفسيرات والاتهامات، وظلت الجريمة محط تساؤلات حول حجم خطورتها من حيث التوقيت والمكان، لاسيما مع ما تتعرض له روسيا من عقوبات وانخفاض لأسعار النفط وضغوط بسبب أزمتها مع أوكرانيا، وعليه هل ستربك حادثة الاغتيال الدولة الروسية في المحافل الدولية؟
ظاهرة الاغتيال
في البدء عرّفت المجتمعات الإنسانية ظاهرة «الاغتيال» (Assassination) عبر مراحل التاريخ، كما شغلت اهتمام الباحثين والمفكرين الذين تناولوه في دراساتهم الاجتماعية والنفسية والسياسية، بل ووضعوا له النظريات والتعريفات فوصفوه بأنه «عملية قتل منظمة ومتعمدة تستهدف شخصية مهمة لها تأثير فكري وسياسي وعسكري وقيادي أو ديني، وتعتبر هذه الشخصية من وجهة نظر مرتكبيه عائقاً في طريق أهدافهم أو أفكارهم». وأشارت الدراسات أيضاً إلى أن هذا الفعل برز مع بروز السلطة السياسية، حتى أن الإغريق قالوا بوجوب قتل الطاغية كما ورد في كتاب «العظماء» لبلوطارخوس الذي كتب في أحد فصوله «إن قتل الطاغية فضيلة قومية».
بدورها عرفت روسيا القيصرية تاريخياً الاغتيال، مثلها مثل بقية المجتمعات، حيث اغتيل فيها خمسة قياصرة في أقل من 200 سنة حسبما تذكر المصادر. وثمة اغتيالات ارتكبت بحق المعارضين في العصر الحديث من هيئة أمن الدولة السوفياتية (كي جي بي) بعد الثورة البلشفية، لاسيما من لجأ منهم إلى دول أخرى مثل ليون تروتسكي الذي نُفي بعد اختلافه مع جوزيف ستالين، وتم اغتياله العام 1940 في مدينة مكسيكو. وكذا الروائي المسرحي غوركي ماركوف العام 1978 وغيرهم. وبالتالي فالحدث متكرّر وليس بجديد في تاريخ الاجتماع السياسي.
بوريس وفعل المعارضة
في السيرة الذاتية لبوريس نيمتسوف، الذي تمت تصفيته بدم بارد، إنه حاصل على الدكتوراه في الفيزياء والرياضيات، وبدأ حياته المهنية قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي عند انتخابه عضواً في البرلمان العام 1990. كما أصبح حاكماً لمنطقة «نيجني نوفغورود» التي تبعد 400 كم شرق موسكو، ونائباً لرئيس الوزراء الروسي السابق بوريس يلتسين. وتولى حقيبة نائب رئيس الوزراء لقطاع الطاقة والاحتكارات من 1997 إلى 1998.
ارتفعت وتيرة معارضته للسلطة بعد الانتخابات التشريعية العام 2007، والتي رأى أنها «الأقل نزاهةً في تاريخ روسيا». كما أخفق العام 2008 في التقدم للانتخابات الرئاسية كمرشح وحيد للمعارضة المتسمة بالضعف والتشتت، وأسّس اتحاد قوى اليمين وأصبح بعدها زعيماً في حزب «سوليدارنوست»، ثم ترشح لرئاسة بلدية سوتشي في العام 2009 حيث تعرّض لاعتداء بمادة الأمونياك من قبل مجهولين، وقاد موجة احتجاجات شهدتها حملة بوتين الانتخابية في 2011-2012 عندما ترشح لولاية رئاسية ثالثة.
استمر نيمتسوف في إدانة فساد ما أطلق عليه «النظام الاوليغارشي» في الكرملين الذي اعتبر سياسته مرتبطة بالأثرياء ممن أفادوا من إجراءات الخصخصة في تسعينيات القرن الماضي، فضلاً عن معارضته للنفقات الباهظة التي صرفتها الدولة على الألعاب الأولمبية الشتوية في «سوتشي»، فأوقفته قوات النظام مرات عدة خلال التظاهرات وتعرّض لعمليات دهم وتنصت وضغوط عدة، واتهم بخيانة الوطن للانتقادات التي وجّهها ضد تدخل روسيا في شبه جزيرة القرم.
وقبل اغتياله بيومين دعا إلى تظاهرة كبيرة تحت شعار «ربيع روسيا» احتجاجاً على سياسات بوتين، وانتقد بشدة إدارة الكرملين للأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تواجهها روسيا بسبب عقوبات الغرب وتراجع أسعار النفط، ولكل هذا وذاك اعتبره بعض المحللين ممثلاً لجيل الإصلاحيين من شباب التسعينيات.
نفذ اغتيال نيمتسوف في مربع أمني يفترض أنه محمي بعد خروجه من أحد مقاهي الساحة الحمراء باتجاه ساحة قريبة من الكرملين انطلقت منها مظاهرات المعارضة، ومن سيارة بيضاء أطلق عليه النار واخترقت جسده أربع إلى ست رصاصات قضت عليه. واستناداً إلى ما سبق توجّهت أصابع الاتهام ضمناً نحو النظام، بيد أن بوتين سارع إلى اعتبار الاغتيال قتلاً سياسياً، وإنه «يحمل بصمات عملية قتل مأجورة وكل سمات العمل الاستفزازي»، وأمر لجنة التحقيقات بوزارة الداخلية ووكالة الاستخبارات بالتحقيق في الجريمة.
من ناحيتها، أعلنت لجنة التحقيقات في بيان لها «أن الجريمة تم التخطيط لها بدقة تماماً في المكان الذي تم اختياره للقتل»، فيما رأى مسئول بالحزب الشيوعي بأنه «عمل استفزازي دموي يهدف إلى إطلاق الهستيريا المعادية لروسيا في الخارج». إلا أن الرئيس الأوكراني كتب على موقعه في «الفيسبوك»: «أعتقد أن الأمر ليس صدفة»، وألمح في اتهام مبطن إلى أنّ «نيمتسوف اغتيل لأنّه كان ينوي الكشف عن أدلة تثبت ضلوع روسيا في الصراع» الذي تشهده بلاده، وأثنى عليه بالقول: «إنه معارض شرس لبوتين كان قد أبلغه قبل أسبوعين بأن لديه أدلة على دور روسيا في الأزمة الأوكرانية وسوف يكشف عنها».
من فعلها؟
إلى هنا يستوجب السؤال عمّن يقف وراء الجريمة؟
فرضيات متعددة أثيرت حول تورط متطرفين أوكرانيين، وضلوع «داعش»، فيما أشارت «الأوبزيرفر» البريطانية في تقرير لها «أنه على الرغم من أن بعض أصابع الاتهام تتجه إلى بوتين للتخلص منه، والبعض الآخر يتجه إلى المعارضة كي تجعل منه كبش فداء تحقق من خلاله بعض المكاسب، إلا أن ثمة (طرفاً ثالثاً) قد يكون متورطاً في مقتله وهو الإعلام»، لافتةً إلى حديث سابق للرئيس بوتين قال فيه، إن الخط الفاصل بين الطابور الخامس «العملاء لدول أخرى» والمعارضة رفيع للغاية ويصعب تمييزه، وهو الخيط الذي التقطه إعلام روسيا الدعائي ليشدّد على رسالة محددة ألا وهي عدم وجود فرق بين المعارضين أو المعترضين على سياسات محددة وبين الجواسيس أو العملاء لدول أخرى. لما لا - والقول لـ «الأوبزيرفر»- وقد سخر بوتين الإعلام لتحويل المجتمع إلى مجموعات متعصبة مستعدة لقتل أي شخص معارض أو مختلف في وجهة النظر، وهو ما سيتحوّل فيما بعد إلى وحش خارج عن السيطرة حتى من السلطة».
ماذا يعني هذا؟ يعني اتهاماً غير مباشر لبوتين ونظامه بتنفيذ الاغتيال عبر التحريض الإعلامي الممنهج.
ختاماً... ما حدث اغتيال سياسي بامتياز، سيعقّد المشهد السياسي الروسي، وهو في جوهره جريمة وفعل جبان ينم عن ضعف وعدم ثقة، أكان نفّّذ بشكل شخصي غرضه الانتقام والتشفي، أو عبر مؤسسات أمنية أو عسكرية، أو بتحريض إعلامي. باختصار يبقى الإغيتال فعلاً لا إنساني ومداناً جملة وتفصيلاً.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4561 - الثلثاء 03 مارس 2015م الموافق 12 جمادى الأولى 1436هـ