أفادت صحيفة الشرق الأوسط اليوم الثلثاء (3 مارس/ آذار 2015) أن زيارة وفد البرلمانيين الفرنسيين الـ4 إلى دمشق، الأسبوع الماضي، ولقاؤهم الرئيس السوري بشار الأسد بمبادرة شخصية ومن غير تكليف رسمي نيابي، تتفاعل سياسيا وحزبيا وإعلاميا. ويبدو أن صاحب فكرة الزيارة نائب مدينة تولوز ورئيس مجموعة الصداقة الفرنسية - السورية في البرلمان جيرار بابت سيدفع ثمن مبادرته التي يمكن إدراجها تحت خانة «الدبلوماسية البرلمانية». لكن مشكلته أن رغبة الانفتاح على النظام السوري تقع على النقيض تماما من السياسة الرسمية التي تنتهجها الحكومة الفرنسية التي أغلقت سفارتها في دمشق في عام 2013، وأبلغت سفيرة سوريا في باريس لمياء شكور أنها «شخص غير مرغوب فيه» على الأراضي الفرنسية، ولكن من دون الإقدام على قطع العلاقات رسميا مع سوريا.
لا تكمن مشكلة بابت فقط في أنه «لولب» الزيارة، بل لأنه الوحيد الذي ينتمي إلى الأكثرية النيابية، وبالتالي كان من المفترض به أن يكون الأكثر قربا من «الخط الرسمي» للدبلوماسية الفرنسية الذي يرى في الرئيس الأسد جزءا من المشكلة، وليس جزءا من الحل.
ولذا، فإن بابت هو الوحيد الذي تلقى اللوم من الحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه. ومن المفترض أن يستدعى بعد ظهر اليوم للقاء سكرتير عام الحزب جان كريستوف كومبادليس الذي هدد، الأسبوع الماضي، بإحالته على اللجنة التأديبية واتخاذ عقوبات بحقه. وكان لافتا أن أصواتا نيابية نادرة ارتفعت للدفاع عنه، وللتأكيد على أن معاقبته ستكون «أمرا غير مقبول».
من جانبه، استبق رئيس المجموعة الاشتراكية في البرلمان برون لو رو، لقاءه، عصر أمس، بالنائب بابت، ليوجه إليه رسالة خطية يدعوه فيها للاستقالة من رئاسة مجموعة الصداقة الفرنسية - السورية. ومما جاء في نص الرسالة التي كشفت عنها أمس إذاعة «أوروبا رقم واحد»، ما يلي: «إن المسؤولية المتميزة التي عهدت بها إليك في شهر سبتمبر (أيلول) من عام 2012، لا يمكن أن تتواءم مع المبادرة التي قمت بها بصفة شخصية بزيارة سورية مع الوفد البرلماني.. لذا أرى من الضروري أن أطلب منك الاستقالة من رئاسة مجموعة الصداقة الفرنسية - السورية». ويشغل بابت، إلى جانب ذلك، نيابة رئاسة مجموعة الصداقة الفرنسية - اللبنانية والفرنسية - الإيرانية والفرنسية - العمانية.
ويعد كثيرون أن الحزب الاشتراكي لن يذهب إلى حد الطلب منه الخروج من صفوفه، لأن بابت وهو في الأساس طبيب قلب، يتمتع بشعبية واسعة، وهو ينتخب عضوا في البرلمان من غير انقطاع منذ عام 1997.
رغم حدة ردود الفعل على أعلى مستويات الدولة الفرنسية على زيارة الوفد لدمشق، فإن الملف لم يغلق، والجدل القائم بشأن إعادة التواصل مع النظام السوري يتخطى الانقسامات التقليدية بين اليمين واليسار.
لكن الثابت أن اليمين الفرنسي بتلاوينه المختلفة هو الأقرب لتبني سياسة «الانفتاح» على الأسد. فالبرلمانيون اليمنيون الثلاثة الآخرون لم يتلقوا اللوم من «عائلاتهم» السياسية، كما أن مسؤولين سابقين، ومنهم رئيس الحكومة الأسبق فرنسوا فيون، يتبنى خط الانفتاح، وكذلك وزير الداخلية السابق كلود غيان، الذي تعاون مع الأجهزة السورية عندما شغل منصب مدير مكتب وزير الداخلية نيكولا ساركوزي، وعندما كان أمينا عاما لقصر الإليزيه.
ويدعم هذا التوجه حزب الجبهة الوطنية «اليمين المتطرف» والتيار «السيادي» والكاثوليك المحافظون «الذين يريدون حماية المسيحيين في سوريا والعراق والشرق بأكمله»، ومجموعات الضغط التي تعمل لحساب روسيا وإيران وأخرى المهتمة بالمصالح النفطية والدفاعية.
ويُضاف إلى هؤلاء جميعا نواب وأصوات من اليسار الراديكالي المتشدد الذي هو على قطيعة مع الحزب الاشتراكي، وخليط من الأكاديميين والمسؤولين الأمنيين السابقين الذين عملوا مع نظرائهم السوريين.
يتبنى هؤلاء مقاربة تقوم على مبدأ التحالف ضد العدو المشترك الذي هو «داعش» و«النصرة» والإرهاب بشكل عام. وبرأي هؤلاء، فإن الحرب على الإرهاب تتطلب «الواقعية السياسية» التي تقول إن نظام الأسد، على عكس ما كان متوقعا منذ انطلاقة الانتفاضة السورية عام 2011. لم يقع ولن يقع، وبالتالي يتعين التعاون معه في الحرب على الإرهاب الذي يستهدف فرنسا ومصالحها مثلما حصل في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي.
وباختصار، يقول هؤلاء، ما بين السيئ والأسوأ يتعين اختيار الأقل ضررا وخطورة، إذ إن الأسد «يمكن احتواؤه وتطويقه لكن احتواء (داعش) وتطويقها أمر أكثر صعوبة بسبب تمدداتها الداخلية وخلاياها الموجودة داخل البلدان الأوروبية».
حتى الآن، الموقف الرسمي لم يتزحزح. وما زالت باريس الطرف الأكثر تشددا من بين كل البلدان الأوروبية، إن في موضوع التعاون مع الأسد أو في موضوع التفاهم حول البرنامج النووي الإيراني.
وما زالت باريس تقول إنه «لا يمكن الخيار بين الطاعون والكوليرا»، وإن الحل يكون بدعم المعارضة السورية المعتدلة، وذراعها العسكرية المتمثلة بالجيش السوري الحر.
وبأي حال، تؤكد المصادر الفرنسية أن تغيير الخط المنتهج إزاء الأسد سيفضي إلى نتيجتين سيئتين: الأولى، دفع السنة إلى أحضان «داعش»، بينما المطلوب هو العكس، والثانية تقسيم سوريا ومن ورائها العراق ولبنان، وربما بلدان أخرى، بحيث يضرب الاستقرار في كل منطقة الشرق الأوسط.
الواقع أنه يتعين على الحكومة الفرنسية أن تحارب على جبهتين: الأولى داخلية، حيث ترتفع أصوات سياسية وإعلامية وتتساءل عن قدرة باريس بسياستها المتشددة على التأثير على مجرى الأحداث في سوريا والمنطقة. أما الجبهة الثانية، فهي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تريد بعض دول الاتحاد، مثل إسبانيا والنمسا والجمهورية التشيكية وغيرها، معاودة التواصل مع نظام الأسد للأسباب عينها التي يرفعها المدافعون عن هذا الخيار في الداخل. وليس سرا أن انعطافة فرنسية ستشكل مكسبا رئيسيا للنظام السوري، لما لباريس من وزن وتأثير داخل وخارج الاتحاد.
هل هذه الانعطافة ستحدث؟ حتى الآن، صوت فرنسا الرسمي لا يشي بتحولات من هذا النوع. ولذا، فإن مبادرات كتلك التي جاءت من قبل البرلمانيين الأربعة ليست سوى «سنونوة» واحدة لا تحمل معها ربيع التغيير الفرنسي بالنسبة للنظام السوري.