منذ نهاية الحرب الباردة، بدأ مصطلح الدول الفاشلة في الظهور، حيث تزامن ذلك مع ظهور العديد من النزاعات الداخلية خصوصاً في الدول التي استقرت بعد انهيار الشيوعية في الإتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، وما رافق ذلك من استخدام واسع النطاق للعنف. وقد تكون أسباب مثل تلك النزاعات عرقية، وقد يأخذ بعضها شكل الحرب الأهلية، وبعضها في صورة ثورات، وكثير منها ناتج عن ظروف إنسانية طارئة.
وعادةً ما تتفاقم هذه النزاعات بسبب غياب الضغوط الداخلية والدولية، الأمر الذي يسرع في انزلاق الدول إلى مستنقع الفشل. وبموجب مجلة «السياسة الخارجية»، يعتبر موضوع الدولة الفاشلة أو «الساقطة»، ثالث أولوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بعد تغيّر المناخ العالمي والنزاع المسلح في الشرق الأوسط.
وهناك العديد من المظاهر التي تطلق على الدول التي توصف بأنها فاشلة، منها فقدان السيطرة على أراضي الدولة وعدم القدرة على احتكار الشرعية في استخدام القوة فوق تلك الأراضي، وتآكل السلطة الشرعية وعدم قدرتها على اتخاذ القرار، أو توفير الخدمات العامة، أو التفاعل مع المجتمع الدولي كطرف كامل العضوية.
ويحدد «صندوق السلام» (Fund of Peace) الذي يتخذ من واشنطن مقراً له، مؤشراً Index من 12 بنداً لتحديد الدول الفاشلة، ويتضمن كل بند منها أكثر من مئة مؤشر فرعي، وتشمل هذه البنود معطيات اجتماعية واقتصادية وسياسية وعسكرية. وأبرز المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية تتمثل في نسبة الوفيات، النمو السكاني، الفقر الغذائي، انتشار الأمراض، نقص المياه الحاد، التلوث، البيئة، الأمراض، تهميش الشباب، حالات النزوح الداخلي ومعسكرات اللاجئين وعددهم (وهي مؤشرات اجتماعية).
وهناك أيضاً مؤشرات اقتصادية، مثل نسبة الدخل والخدمات المقدمة في الأرياف مقارنة بالمدن والخدمات العامة وانتشار مدن الصفيح أو العشوائيات وانتشار الفقر والعجز في الميزانية وارتفاع ديون الدولة وانتشار البطالة وقلة فرص العمل ونسبة التضخم والناتج المحلي الإجمالي.
أما المؤشر السياسي والعسكري فيشمل أموراً تتعلق بشرعية الدولة والخدمات العامة وحقوق الإنسان وحكم القانون. ويتفرع من هذه المؤشرات مؤشرات فرعية تتعلق بفاعلية الحكومة والفساد والمشاركة السياسية والعملية الانتخابية ومستوى الاستقرار الديمقراطي وانتشار المظاهرات والاحتجاجات والصراع على السلطة، وصراع النخب السياسية وانتشار ظاهرة الانشقاقات والمنافسة السياسية الحادة، والتعليم والأمية وتوفر المياه والصرف الصحي، ومستوى الخدمات الطبية، وحرية الصحافة، والحريات السياسية، التعذيب، حالات الإعدام. وتشمل المؤشرات العسكرية محاولات الانقلاب وانتشار التفجيرات والاغتيالات وانتشار الأسلحة.
ويصدر «صندوق السلام» تقريراً سنوياً بشأن الدول الفاشلة (الهشة)، يرتب فيه دول العالم ترتيباً يبدأ بالدولة الفاشلة الأولى ومن تليها وهكذا إلى ينتهي بأفضل الدول في ذيل القائمة. ويمنح التقرير الدول المصنفة درجات من 1 إلى 10 بعد تحليل ملايين التقارير المعلنة والمنشورة عن الدول. وكلما ارتفعت درجات الدولة كلما زاد اقترابها من درجة الدولة الفاشلة.
مصر والصومال وليبيا
وقد رأى مقدمو التقرير أن يغيّروا اسمه منذ العام 2014 ليصبح تقرير الدولة الهشة (Fragile States Index) بدلاً من الدول الفاشلة. وكانت الصومال تتربع على قائمة الدولة الفاشلة لسنوات خلت (2008– 2013)، غير أن جنوب السودان حلّت محلها في المركز الأول حسبما جاء في تقرير العام 2014 والذي شمل 178 دولة. وحلّت الصومال في المركز الثاني، تليها جمهورية أفريقيا الوسطى ثم الكونغو. وتشمل قائمة أكثر عشر دول فشلاً ثلاث دول عربية هي الصومال والسودان واليمن. ومن الغريب في هذا التقرير أن مصر حلّت في المرتبة 31 فيما حلت ليبيا في المرتبة 41، وهو يعني أن ليبيا على ما تمر به من حالة عدم استقرار أفضل من مصر التي دخلت المنطقة البرتقالية، وهي مرحلة الخطر التي يحددها هذا التقرير.
ويشير تقرير 2014 إلى أنّ ليبيا أصبحت أكثر دول العالم تراجعاً في مؤشر حالة فشل الدولة من حيث التصنيف، حيث تراجعت بثلاث عشرة نقطة. كما أن ليبيا تعتبر أكثر الدول تراجعاً في عدد الدرجات للخمس سنوات الماضية (2009 – 2014) حيث تراجعت بنسبة 18.4 درجة. ومن الجدير بالذكر أن ليبيا كانت قد حققت رقماً قياسياً في التراجع نحو وضع الدولة الفاشلة العام 2012، حين قفزت من المرتبة 50 إلى المرتبة 11. وهو مؤشرٌ واضحٌ على أثر الحرب الأهلية والصراع على السلطة الذي بدأ بعد سقوط نظام القذافي.
وعلى الرغم من بعض التحسن الذي حدث في مؤشر ليبيا العام 2013، إلا أن ذلك لم يستمر، حيث أدى تزايد أعمال العنف والإرهاب واشتداد الصراع على السلطة إلى تراجع مؤشرها مرةً أخرى العام 2014، حتى أصبحت أكثر دول العالم تراجعاً. ويصنف التقرير الدول في درجات تبدأ من تحذير عال جداً (Very High Alert)، ثم تحذيرٌ عالٍ، ثم تحذير، ثم تنبيه عال جداً (Very High Warning)، بعدها تنبيه عال، ثم تنبيه، بعدها أقل استقراراً، ثم مستقرة، ومستقرة جداً، ودائمة الاستقرار (Sustainable)، وأخيراً دائمة الاستقرار جداً (Very Sustainable)، وتشمل هذه دولة واحدة وهي فنلندا.
المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية
ولو حاولنا تطبيق بعض تلك المؤشرات على الحالة الليبية، فسوف نجد أن الكثير من مؤشرات الدولة الفاشلة متوفرة فيها في المرحلة الراهنة، حيث تتلخص مظاهر الفشل في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في الظواهر التالية:
أولاً: تفاقم حالات اللجوء إلى دول الجوار ومشكلة النزوح الداخلي نتيجة لتصاعد أعمال الاقتتال والعنف. ورغم أن النازحين في ليبيا ليسوا بتلك الأعداد الكبيرة، إلا أن هناك بعض المخاوف من إمكانية بقائهم في الأماكن التي نزحوا إليها لفترة طويلة نتيجة للظروف التي تمر بها البلاد وأهمها انعدام الأمن والاستقرار. وتقدر السلطات الليبية عدد النازحين داخلياً بنحو 65 ألف شخص، منهم 40 ألفاً من أهالي تاورغاء الذين هجّروا على أيدي مليشيات مناهضة للقذافي بذريعة دعمهم لنظامه وارتكابهم جرائم في مدينة مصراته. وتعتبر منظمة العفو الدولية أن تهجير أهالي تاورغاء انتهاك للقانون الدولي. وقد يتزايد عدد النازحين في حال استمر تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد. وتشير مؤشرات «صندوق التنمية» إلى زيادة الوضع السيئ للاجئين والنازحين داخلياً بشكل ملفت للانتباه.
ثانياً: مع تصاعد أعمال العنف والتوتر السياسي، تدهور الوضع الاقتصادي في ليبيا بشكل غير مسبوق، حيث يوجد مصرفان مركزيان أحدهما في مدينة البيضاء القريبة من طبرق شرقاً (للحكومة المعترف بها دولياً)، والآخر في العاصمة طرابلس غرب البلاد.
ثالثاً: انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع الإيرادات النفطية بنسبة 50% منذ يونيو/ حزيران 2014، علماً بأن الاقتصاد الليبي يقوم على قطاع النفط، كما توقفت مشاريع التنمية. وقد تفاقم الوضع الاقتصادي بعد توجه بعض المليشيات نحو ما يعرف بحرب النفط عبر قصف وتدمير آبار النفط الذي يعد عصب الحياة في ليبيا، وزاد الوضع تأزماً نتيجة للانخفاض الكبير في أسعار النفط الذي بدأ العام 2014.
رابعاً: ارتفاع العجز في الموازنة ليبلغ 19.3 مليار دينار ليبي (14.84 مليار دولار)، وقد أعلن البنك المركزي للحكومة المعترف بها دولياً أن إجمالي المصروفات بلغت 38.5 مليار دينار ليبي (29.6 مليار دولار)، بينما بلغت الإيرادات نحو 19.2 مليار دينار ليبي (14.76 مليار دولار) خلال الفترة من يناير حتى نهاية نوفمبر 2014. ولهذا قال بعض الخبراء الاقتصاديين إن ذلك العام يعتبر من أسوأ الأعوام التي مرت بها ليبيا من الناحية الاقتصادية منذ قرابة الخمسين عاماً.
خامساً: تضرر القطاع النفطي في البلاد بشكل كبير بعد استهدافه من قبل الجماعات المسلحة ومنها جماعة «فجر ليبيا»، ونتيجة لذلك أعلنت الحكومة المعترف بها دولياً في الأسبوع الأول من فبراير 2015 منطقة «الهلال النفطي» منطقة «منكوبة» نتيجة لتردي الأوضاع الإنسانية إثر الهجمات التي تشنها بانتظام مليشيات «فجر ليبيا». وتزعم هذه الأخيرة أن هجماتها التي أطلقت عليها اسم «عملية الشروق»، تتم بناء على تكليف من المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته بهدف السيطرة على الهلال النفطي، والذي يضم مدن بنغازي وسرت وتتوسط المسافة بين بنغازي وطرابلس.
ونتيجة لأعمال الاقتتال شهدت المنطقة بحسب الحكومة المعترف بها، «نزوح أعداد كبيرة من سكانها وإقفال معظم الدوائر الحكومية والخدمية ونقص الخدمات الأساسية مثل السلع والمواد التموينية والأدوية وغيرها»، وهي كلها مؤشرات على هشاشة الدولة أو فشلها.
ومما لاشك فيه أن عدم الاستقرار السياسي وأعمال العنف والاقتتال الدائر، انعكست على الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد، وزاد الوضع تفاقماً بوجود حكومتين تدعي كلٌّ منهما الشرعية. كل ذلك أدى إلى إهدار الكثير من مقدرات البلد التي أنفقت في أعمال القتال أو أهدرت ودمرت نتيجة للمعارك العسكرية بين الفصائل المتناحرة.
إقرأ أيضا لـ "محمد صالح محمد"العدد 4560 - الإثنين 02 مارس 2015م الموافق 11 جمادى الأولى 1436هـ
مفيد
معلومات مفيدة تفتح آفاق جديدة لنا كقراء ونتمنى المزيد من هذا المحور