أكبر مأزق واجه الأنظمة الاستبدادية في العقد الأخير، ومازال يواجهها، هو انتهاء عصر احتكارها للمعلومة والمعرفة. كانت أجهزة تلك الأنظمة، تُمرِّر ما تريد تمريره، وتحْجب ما تريد حجبه. دورها يتركَّز في الحجْب أساساً. حتى حجْب الشمس لو استطاعت إلى ذلك سبيلاً؛ على رغم أن بعضها يفعل ذلك في «طوامير» الإقامة المتوسطة والطويلة.
وحتى ما يتم تمريره يُطاف به أولاً عبر أكثر من مصفاة، تُحدِّد قيمته ومردوده لطرف واحد، ولا يصل إلى الجهات المعنيّة بالتمرير إلا بعد أن يُجرَّد من قيمته. المعلومة هي الأخرى لا تصل إلا وهي منزوعة الدَّسَم! ولا يكفي أنها لا تُقدِّم وتُحسّن من أوضاع الناس؛ بل يجب التأكد من أنها تعمل على تراجعهم والإسهام في سوء أوضاعهم.
ظل الإعلام - وما يزال في بعض الجغرافيات - أحد الأجهزة الرئيسة التي مثَّلت وتمثِّل في بعض البلدان حتى يومنا هذا، مصانع لإعادة برمجة الخيارات المفروضة أساساً، وتزييف الوعي وتحريفه. كان الإعلام - وما يزال في بعض الجغرافيات - واحداً من الأجهزة التي يُملى عليها ما يمكن تمريره وما يجب حجْبه.
تغيَّرت الأوضاع وخرجت عن السيطرة، ولم يكُ ذلك في الحسبان. صار الإعلام اليوم في الشارع، في المكتب، في انتظار حافلة، في انتظار موعد عند الطبيب، عند المخبز والبقَّالة، في البيت، في غرفة النوم. لم يعد حكْراً على أحد. لا تحتاج إلى إمكانات متقدِّمة، ومواهب غير عادية، ومعرفة استثنائية كي تَلِجَ بكبسة زر إلى معرفة ما يدور في العالم من حولك، وما يدور في محيطك وبيئتك.
الأجهزة الأخرى التابعة إلى تلك النوعية من الأنظمة مارست أدوارها في تغييب المواطن عمَّا يحدث في بلده، وما يدور في الشارع، في المكتب، في انتظار حافلة، في انتظار موعد عند الطبيب، عند المخبز والبقَّالة، في البيت، في غرفة النوم، والمجمَّع الذي يسكنه. حتى ما قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، بدأت موجة الاحتكار تصغر في العالم كل العالم. لم تعد تلك الموجة المُرعبة، التي هزّت الكيانات والخيارات والإرادات، وثبّطت الهمم، وأدخلت البشر في دائرة مغلقة من اليأس، ودفعت البشر إلى الانكفاء، واعتزال السياسة وتناول شئونهم العامة، لأن لذلك وبتجارب سابقة وقائمة له ضرائب وكُلَف بدّدت الأمل في تحمّلها، لم تعد تلك الموجة سيِّدة نفسها بشكل مطلق.
ومع مجيء وسائل التواصل تلك، كان العالم على موعد مع زلزال من نوع آخر. زلزال كشف هشاشة ودجل وكذب وأهداف تلك الأجهزة. تنبّه الناس إلى حقائق أبسطها أنهم كانوا مُستَغفَلين طوال عقود، وكان يُلقى إليهم فتاتٌ مما يحق لهم معرفته. وهي معرفةٌ لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر في حاضر ومستقبل الهيمنة على كل شيء تقريباً. تخْرج وزارات الصحة على المواطنين بأرقام تتحدَّث عن إنجازاتها. تبرز إحصاءات المواليد، ولكنها لا تعتدُّ بارتفاع إحصاءات الوفيات؛ سواء بفعل الأخطاء الطبية، أو بفعل الأدوية الفاسدة ومنتهية الصلاحية، أو بفعل «كفاءات» منتهية الصلاحية في بلدانها فصارت طازجة في صلاحيتها عندنا، على حساب بشر، ومن هم في ذمتهم.
لكل جهة إعلامها وتبريراتها وبيانات ردودها التي لا علاقة لها بأي موضوع. لها علاقة فقط بصوتها الذي تريد له أن يطغى انسجاماً مع طغيان متعدد. تخرج وزارات العمل لتطمئن العالم، ولا شغل لها مع مواطني بلدها، على الإنجاز الفارق لهذا العام والعام الذي سبقه والذي سيليه، ويتحدَّد في أن معدَّل البطالة تحت مستوى 1 في المئة، وعليك ولو بتكَّهن تقوده المصادفة أن تضع رقماً باختيارك أمام الرقم المُعلن، وقد يكون بعد بحث وتتبُّع؛ أقل من المُعدَّل الحقيقي لتلك البطالة.
تخْرج وزارات الداخلية في جغرافيتنا العربية لتطمئن العالم؛ وحتى بعض الذين لم يمْسَسْهُم سوء لتمسكهم بنصيحة «المشي جنب الحائط كي يعودوا سالمين»، أو ارتضوا الواقع القائم الذي لا يريدون أي تغيير عليه، ارتباطاً بمصالح ومنافع لن تنقطع عنهم ببقائه؛ أو ذهبوا إلى أبعد من ذلك، بالثناء على اتخاذ «الإجراءات القانونية المناسبة»، وإن لم ينلهم حظ من تلك المصالح والمنافع، إضافةً إلى استناد تلك الوزارات في الوقت الراهن، مجاراة للشكليات في عالم اليوم، إلى أكثر من «دائرة وشُعبة لحقوق الإنسان» تحرص على وجودها؛ فيما الممارسات تُبْرز لك القدرات والمواهب في تحويل شكل وملامح الإنسان داخل دور ضيافتها إلى ما ينفي بعض الذي يدل عليه، ولتكتشف أن الإجراءات التي يتم اتخاذها، تخضع إلى تعريف وتطبيق القانون الخاص بها، ذلك القابل للتنقيح على مدار الساعة! وللحديث تتمَّة.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4559 - الأحد 01 مارس 2015م الموافق 10 جمادى الأولى 1436هـ
احسنت
عجيب