تركت الحوادث الأخيرة في إيران الباب مفتوحا لمزيد من التأويل القائم على معطيات بعضها حقيقي وآخر وهمي. ولأن التأويلات المُتَّكِأة على مُعطيات تاريخية وميدانية هي الأقرب إلى الاستذواق والترجيح فإنني أفسّر ما جرى وفق مُعطَى ملموس لكنه مُغيّب، سأتناوله باختصار.
بعد انتصار الثورة الإسلامية في فبراير/ شباط من العام 1979 كان أمام السّاسة الجُدد خيار التعامل مع ثلاثة أنواع من مؤسسات الدولة الشاهنشاهية.
الأولى: هي المؤسسات التي يُمكن إدماجها في الحكم الجديد دون موانع سياسية أو ايدلوجية؛ كتلك المتعلقة بتسيير الحياة اليومية للناس من وزارات خدمية ومكاتب تُقدّم خدمات مدنية ولكن من دون رؤوس سياسية.
الثانية: مؤسسات قابلة للتماهي من الحكم الجديد بعد إجراء تحسينات على فروتها وجزء من حوافّ هيكلها العام، كالجيش الإيراني الذي لم يتمّ حلّه أو تسريحه، بل اقتصر الأمر على التخلّص من قياداته العليا من رتبة مُقدّم حتى فريق، وتغيير ايدلوجيته وعقيدته القتالية.
الثالثة: هي المؤسسات التي لا يُمكن التعامل معها أو تشذيبها على اعتبار أنها لا تنتظم مع الرؤية الجمهورية الدينية للحكم الإسلامي، كالمناشط الأمنية والسياسية والاقتصادية المرتبطة بالطبيعة الملكية للدولة الشانشاهية، فكان لِزاما حلّها.
لذا فقد تطلّب الأمر إقامة مؤسسات جديدة تتناغم مع النظرية السياسية الدينية الثورية كالقيادة (الولي الفقيه) ومجلس خبرائها ومجلس صيانة الدستور ورئاسة الجمهورية ومجمع تشخيص مصلحة النظام، فأوكِلت هذه المهمّة للصفوة السياسية المحيطة بالإمام الخميني وقيادات الأحزاب الدينية النصيرة له. وهنا وَقَعَ الإشكال.
فعندما بدأت هذه القيادات في تشييد مؤسسات الحكم الجمهوري الديني الثوري ظهر التلازم العضوي بين الأفراد المُؤسِّسِين وبين تلك المؤسسات. فبقي الأفرادُ أفرادا والمؤسساتُ مؤسسات لا يجمعهما سوى الوصل السياسي.
بمعنى أن بعض هذه القيادات التي أنشأت المؤسسات الجديدة كَبُرَت إلى جانب تلك المؤسسات. وكلما تنامي دور المؤسسة تنامى دور أولئك الأفراد أيضا، إلى الحدّ الذي حوّل بعضهم إلى أوعية تستوعب المؤسسات الجديدة وليس العكس.
هم من الناحية البيروقراطية غير المُلزِمة أعضاء فيها ولكن من ناحية العُرف السياسي ولوازم التراتبية داخل الكاريزما والحظوة هم خارجها، بل جُعِلَت بعض المؤسسات تتمقيس على حضورهم الشخصي والسياسي.
بطبيعة الحال فإن ذلك أنتَجَ ثلاثا من المشكلات السياسية والإدارية في النظام:
المشكلة الأولى: هو الوصول إلى ازدواجية ما بين قرار المؤسسة وقرار الفرد، وضياع الاحتكام إلى أيٍّ من الرأيين وأيضا ضياع ترجيح أحدهما على الآخر.
المشكلة الثانية: هو ترحيل أحد سمات المجتمع الانتقالي الذي عادة ما يعقب الأحداث الراديكالية في بُنية المجتمع إلى زمن الدولة الدستورية المستقرّة، وهي رخاوة التحالفات القائمة وسهولة التحوّل من سماط إلى آخر من دون ضوابط سياسية صارمة.
المشكلة الثالثة: هو مُزاحمة مكانة المرشد الأعلى للثورة والذي من المُفترض أن يختصّ لنفسه بدور النمو بجانب المؤسسة (وليس خارجها) وذلك راجع لطبيعة الصلاحيات الممنوحة له طبقا للمادة 110 من الدستور الإيراني.
بطبيعة الحال فإن هذه المشكلة لم تكن تختصّ بإيران فقط، فقد عانت منها الولايات المتحدة في عقود تأسيسها الأولى حين تحوّل جورج واشنطن إلى مؤسسة كاملة، وكذلك فرانكلين روزفلت لاحقا لكنهم استطاعوا التخلّص منها فيما بعد.
وباعتقادي فإن الإيرانيين وبعد الأزمة الأخيرة سيتنبّهون إلى خطورة هذا الموضوع، إذ لا يُعقل أن يفاجئهم بين الفينة والأخرى سياسي هنا وآخر هناك بتمرّد على الدولة فقط لأنه يملك تاريخا ووصلا بوهَجِ الثورة الأول، وكأنّ الشرعيات تُؤخَذ من الأفراد لا المؤسسات. وبالتالي فإن معركة إيران القادمة هي في تأطير الأدوار والأحجام معا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2491 - الأربعاء 01 يوليو 2009م الموافق 08 رجب 1430هـ