لم تكن دلمون عبارة عن مدينة واحدة بنيت في موقع قلعة البحرين، وإنما تعتبر تلك المدينة كمدينة مركزية يقع بها قصر الملك الدلموني، بالإضافة لعددٍ من المباني الإدارية. ويضاف لهذه المدينة، عدد من المدن الصغيرة الفرعية وعدد من المعابد. ويرجح أن وظيفة هذه المعابد التحكم في مصادر المياه وتنظيم عملية الري والزراعة في مناطق الأرياف الطرفية المنتشرة في البحرين في تلك الحقبة. وفي الغالب تكون هذه الأرياف عبارة عن منازل من سعف النخيل، منتشرة بين المزارع المتداخلة، ونادراً ما تكون مبنية بالحجارة. ولهذا السبب، يتم العثور، في مناطق الأرياف، على آثار تدل على سكنى في الحقب الدلمونية ولكن لا يتم العثور على آثار تدل على بناء منازل طينية فيها، كما في كرانة على سبيل المثال (Velde 1998). أضف إلى ذلك المقابر العديدة التي تعود للحقب الدلمونية المنتشرة في كل أرجاء البحرين، ولا توجد بالقرب منها آثار لمبانٍ سكنية.
هذا النموذج، ذاته، أي وجود مناطق سكنى أو مدن مركزية مبنية بالحجارة ومناطق ريفية تنتشر فيها المنازل السعفية، هذا النموذج، يمكن أن نصف به البحرين في العصور الإسلامية الأولى. حيث تم العثور على آثار مدن/ قرن تعود للقرن التاسع الميلادي، وكذلك عثر في مواقع أخرى على آثار تدل على أنها كانت مستوطنة ولكن لا توجد بها آثار لمبانٍ سكنية. وسبق أن حددنا في حلقات سابقة مواقع المدن الأساسية وأهمية كل مدينة من المدن التي ظهرت في القرن التاسع الميلادي.
تطور المناطق الريفية القديمة
لقد بدأت المناطق الريفية في البحرين في الاتساع والتطور بدءاً من القرن التاسع الميلادي. والمرجح أن هذا التطور حدث بطريقتين، الأولى، حدوث هجرات جديدة للبحرين من الخارج، والثانية، هجرة جماعات من المراكز المدنية الموجود في البحرين وتأسيس مناطق ريفية جديدة. وسبق أن ناقشنا في حلقة سابقة مدى تطور القرى في البحرين في القرن التاسع الميلادي. ويرجح بعض الباحثين، من خلال اللقى الآثارية، أن البحرين وصلت إلى مستوى مرموق من الرخاء، وكونت لها علاقات تجارية مع العديد من الدول المجاورة والبعيدة (Carter 2005). إلا أن الحال لم يبقَ على ما هو عليه، ففي بداية القرن العاشر، وبالتحديد مع بداية السيطرة القرمطية على جزر البحرين والتي يرجح أنها بدأت في العام 929م واستمرت حتى العام 1064م (الجنبي 2012، ج4، ص 2257 - 2258). وفي ظل السيطرة القرمطية حدث تراجع واضح في التجارة، ربما بسبب سياسة الضرائب التي اتبعتها القرامطة (Carter 2005).
المرجح أن القرامطة استقروا في منطقة البلاد القديم وما حولها، وقاموا بتعطيل الصلاة في المساجد. وبهذه السياسة تأثرت المدينة المركزية التي بنيت في القرن التاسع الميلادي حول مسجد الخميس، وكانت هذه المنطقة في السابق تمثل مركزاً تجارياً يحيط بالمسجد، إلا أنها بدأت تفقد أهميتها في حقبة السيطرة القرمطية. وتشير نتائج التنقيب الآثارية في هذه المنطقة لتناقص واضح في الفخاريات التي تعود للقرن العاشر/الحادي عشر الميلادي، ما يشير لحدوث هجرة من هذه المنطقة (Carter 2005). وبالتزامن مع هذه الحقبة التي قلت فيها الفخاريات من هذا الموقع، تم العثور على آثار تدل على حدوث استيطان في مناطق جديدة في منطقة الأرياف، كما في فاران القديمة وجنوسان وبين قريتي باربار والدراز (Larsen 1983, pp. 295 - 305). هذه النتائج، ربما، تشير لابتعاد العديد من الجماعات عن مركز السيطرة القرمطية واستيطان الأرياف الطرفية. وهكذا أخذ التوسع في الأرياف يزداد على حساب المركز، وبدأت تظهر الأسواق الطرفية الريفية، وحدث كساد للأسواق المركزية. كل ذلك أدى لتضرر التجارة في البحرين في الحقبة القرمطية، وهذا ما تشير له المصادر، وأشرنا له سابقاً ضمن قصة بناء مسجد الخميس وإعادة تشيد مركز تجاري حوله والتي تناولناها بالتفصيل في كتابنا «مسجد الخميس: الحوزة الأولى وأول مسمار في نعش القرامطة».
باربار وجاراتها قديماً
الحديث عن تاريخ قرية باربار والقرى المجاورة يحتاج للتأمل؛ وذلك للتوصل لرسم الصورة التي كانت عليها هذه القرى قبل القرن العشرين. وذلك قبل أن تقسم بشكلها الحالي، حيث لم تكن هناك الشوارع الموجودة حالياً، والتي ترسم حدود القرى الرسمية المتعارف عليها حالياً. كانت هذه المناطق، ومازالت بعضها، مناطق خصبة كثيفة الزراعة، وكانت المزارع متداخلة. لم تكن هناك طرقات تحدد حدود القرى، بل كانت هناك ممرات ضيقة. حتى مسميات تلك الطرق تدل على وصفها، فقد تعارفت العامة على مسميات وصفية انتشرت في العديد من القرى، منها «الطريق الضيقة».
كانت تلك القرى متداخلة، وكانت لها مضاعن (سكن مؤقت في الصيف)، بالإضافة للمواقع الأساسية للقرى. وقد كانت مزارع القرى التي تقع الآن على جنوب شارع البديع (المرخ، ومقابة، وأبو صيبع) تمتد إلى القرى المقابلة لها. وكانت سواقي العيون الطبيعية التي توجد في تلك المناطق تعبر منها وتمر خلال القرى المقابلة لها، ثم تتحول إلى منجيات تصب في ساحل البحر الشمالي. للأسف، لم تبقَ هناك آثار كثيرة تدل على ذلك؛ فقد اختفى العديد منها، ولكن، كيف اختفت تلك الآثار؟ ولماذا لم توثق؟
البحث عن الآثار تحت الشوارع
إن عمليات تطوير الريف الحديثة، والتي بدأت منذ بداية القرن العشرين، أدت لضياع العديد من آثار الريف القديمة، وخصوصاً عملية رصف الشوارع. وفيما يخص المناطق المطلة على شارع البديع، فإن رصف شارع البديع في العام 1937م أضاع الكثير من آثار هذه القرى. على سبيل المثال، قرية أبومحارة، كانت تقع بين قريتي القدم والمقشع، وقد عثر على جزء من آثار هذه القرية جنوب قرية المقشع. أما غالبية آثارها فإنها إما أزيلت أو دفنت تحت شارع البديع.
إن عملية ردم أو إزالة العديد من الآثار، أثناء رصف شارع البديع، تم توثيقها بصورة جيدة من قبل بلغريف، مستشار حكومة البحرين (1926 - 1957م)؛ ففي شهر مايو/ أيار 1937م، وذلك بعد شهر واحد من رصف شارع البديع، أرسل بلغريف تقريراً مقتضباً إلى صحيفة «التايمز» اللندنية يصف فيها التلال الأثرية والقبور التي تمت إزالتها لأجل بناء شارع البديع. وقد أعيد نشر هذا التقرير من قبل الشيخة مي آل خليفة وذلك في كتابها «تشارلز بلغريف: السيرة والمذكرات»، وذلك تحت عنوان «مقالة كتبها بلغريف لصحيفة «التايمز» اللندنية عن تلال عالي وحضارة البحرين» (آل خليفة 2000، ص 514 - 516). في واقع الأمر، كان المقال عبارة عن تقرير حول العديد من التلال التي تحتوي على قبور قديمة يرجح أنها تقع في موقع شارع البديع الحالي والتي تمتد ما بين قريتي القدم والمرخ. ولم يتم التنقيب إلا في بعض تلك القبور، وقد أزيلت بقيت التلال ودفنت بقيت الآثار من دون التنقيب فيها.
يمثل هذا التقرير مثالاً لبعض الآثار التي أزيلت أو دفنت تحت الشوارع التي رسمت حدود القرى الجديدة. إلا أن الذاكرة الشعبية لسكان هذه القرى مازالت تحتفظ بصورة مرسومة، وإن كانت جزئية، لما كانت عليه بعض تلك المناطق قبل رصف شارع البديع. من ذلك، السواقي التي كانت مشهورة والتي تعبر منطقة شارع البديع وتمر عبر القرى المقابلة وتصب في ساحل البحر. ومن هذه السواقي، على سبيل المثال، الساقية أو القناة التحت أرضية التي تخرج من عين السوق في قرية أبوصيبع، والتي كانت تمر تحت شارع البديع، وتمر بين قريتي باربار وجنوسان وتتحول إلى منجى يصب في البحر. وبعض الروايات تشير لوجود قرى تقع بين المناطق التي تقع جنوب شارع البديع والمناطق التي تقع شماله.
إن تلك الروايات ليست خيالية، فما بين موقع معابد باربار في الشمال، ومسجد المدرسة في قرية مقابة في الجنوب، هناك آثار شاهدة على قصة يرويها الأجداد للأحفاد. فيا ترى، ماذا يوجد بين المعبد والمسجد؟.
العدد 4557 - الجمعة 27 فبراير 2015م الموافق 08 جمادى الأولى 1436هـ