تمر ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي حتى اليوم بحالة من الفوضى التي لا مثيل لها في تاريخ ليبيا الحديث، وذلك بسبب الاقتتال الدائر بين عدد من المليشيات المسلحة التي شاركت في الإطاحة بنظام القذافي. وتفاقمت حالة الفوضى حين أصبح في البلاد حكومتان، واحدة في الغرب وأخرى في الشرق، وكل منهما تدعي أنها الحكومة الشرعية لليبيا. وإلى جانب الحكومتين يوجد برلمانان ومؤسسات رسمية أخرى.
هذا الوضع الذي وصلت إليه ليبيا بعد نحو أربع سنوات من سقوط نظام الدكتاتور معمر القذافي العام 2011، جعل من ليبيا تصنف على أنها «دولة فاشلة»، الأمر الذي لا يشكل خطراً على ليبيا وشعبها فحسب، بل على جيرانها وعلى العالم أجمع، خصوصاً في هذا العصر المعولم الذي تتشابك فيه المصالح والعلاقات الدولية مع بعضها البعض.
وتتمثل المشكلة الرئيسية في ليبيا في الصراع على السلطة بعد أن وجدت المليشيات التي أطاحت بالنظام السابق فرصة في غياب السلطة المركزية القوية، من أجل تحقيق مصالح ضيقة. وقد أدى هذا الوضع إلى تهديد وحدة ليبيا التي أصبحت على المحك بعد مطالبة بعض المليشيات والجماعات في شرق ليبيا بحكم ذاتي قد يكون مقدمة لتفتيت البلاد فيما لو تحقق في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ ليبيا المعاصر.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل عادت العصبيات القبلية للظهور من جديد بعد أن حُجّم دورها خلال حكم القذافي، وتفاقم الأمر عندما تم الاعتداء على المناطق النفطية التي يعتمد عليها اقتصاد البلد بالدرجة الأولى. وكان ظهور الجماعات الإرهابية أحد أبرز إرهاصات هذه الأزمة الخانقة التي تمر بها ليبيا منذ سقوط نظام «الجماهيرية».
تطور الأحداث منذ سقوط النظام
ما هي مظاهر ومؤشرات الفوضى التي تمر بها ليبيا؟ وما انعكاساتها على الوضع الداخلي والإقليمي والدولي؟ هذا ما تحاول هذه الدراسة الإجابة عليه، في الذكرى الرابعة لسقوط القذافي، والتي تمر هذا العام وليبيا في حالة مثيرة للقلق بوتيرة متزايدة بسبب الصراع على السلطة وما صاحبه من ظهور وتفشي الأعمال الإرهابية في مناطق مختلفة من ليبيا، وما يشكله ذلك من خطر على السلم والأمن الدوليين.
وكان الليبيون يأملون بثورتهم في أن يخرجوا من حالة الكبت والحرمان التي عانوا منها منذ وصول معمر القذافي للسلطة على ظهر دبابة عسكرية، غير أن تلك الآمال سرعان ما تبخرت مع مرور الوقت نتيجة للصراع على السلطة بين المجموعات المسلحة التي قاتلت جنباً إلى جنب للإطاحة بالنظام السابق.
وقد نتج عن هذا الصراع حالة من عدم الاستقرار السياسي وحالة من عدم الاستقرار الحكومي، حيث تم تغيير الحكومة الانتقالية خمس مرات في ظرف سنتين بسبب النزاع على السلطة وغياب الأمن في البلاد. فقد انتخب المؤتمر الوطني العام في بادئ الأمر عبد الرحيم الكيب لمنصب رئيس الوزراء (أول حكومة انتقالية بعد سقوط القذافي) حيث عمل هذا الأخير لمدة سنة، من 31 أكتوبر 2011 حتى 18 نوفمبر 2012. ثم خلفه مصطفى أبو شاقور (من التيار الإسلاموي/ الجبهة الوطنية) الذي بقي في المنصب لأقل من شهر، وخلفه علي زيدان الذي بقي لمدة عام وخمسة أشهر تقريباً (من 31 أكتوبر 2012 حتى 11 مارس 2014)، ثم خلفه عبد الله الثني، حيث حدث نزاع دستوري فيما بعد مع أحمد معيتيق الذي انتخبه المؤتمر الوطني العام، وحكمت المحكمة الدستورية فيما بعد، بعدم دستورية انتخابه.
محاربة القبيلة ثم الاستقواء بها
وما يزيد من تعقيد الأزمة الليبية ظهور العصبيات القبلية مرة أخرى، حيث أن ليبيا مجتمع بدوي، تلعب فيه القبيلة دوراً قوياً خصوصاً في ظل غياب سلطة مركزية قوية. ويأمل الكثير من المحللين السياسيين أن يظل دور القبيلة في ليبيا المستقبل ضعيفاً ويبقى في الحدود الاجتماعية، لكن ذلك في نهاية الأمر يعتمد بالدرجة الأولى على مدة قوة الحكومة المركزية.
ومن الجدير بالذكر أن دور القبائل كان قوياً خلال الحكم الملكي، غير أن القذافي تعهد منذ وصوله للسلطة العام 1969 بالقضاء على النزعة القبلية، ونجح خلال السنوات العشر الأولى من حكمه في تحجيم دور القبيلة، لكنه سرعان ما لجأ إلى القبيلة مرةً أخرى للاستعانة بها في صراعه مع رفاق دربه، حين عمل على التخلص منهم واحداً تلو الآخر.
وقد أصبح الوضع الأمني غير المستقر في ليبيا مصدر قلق للدول العربية وللغرب على حد سواء، حيث تم التعبير عن هذا القلق في عدة مناسبات، فخلال مؤتمر روما لأصدقاء ليبيا الذي عقد في مارس/ آذار 2014، بهدف تقديم المساعدات الضرورية للسلطة الانتقالية، عبّر المشاركون في المؤتمر عن استعدادهم لمساعدة ليبيا، لكن «انتشار السلاح غير المنضبط» على حد وصف وزيرة الخارجية الايطالية آنذاك فيديريكا موغيريني، يخلق صعوبات ويعيق جهود الشركاء الدوليين.
وكان يبدو من المواقف الغربية أن الغرب ما عاد متحمساً للتدخل مثلما فعل في العام 2011، حين ساهم مساهمة كبيرة في الإطاحة بنظام القذافي، فوزير الدفاع الفرنسي على سبيل المثال يرى أن جنوب ليبيا بات «معقلاً للإرهابيين»، لكنه لا يؤيد التدخل في ليبيا لأنها «بلد مستقل»! كما أن الوزير الفرنسي يرى أن «توجيه ضربة من دون حل سياسي لن يؤدي إلى نتيجة».
وقد دخلت ليبيا وضع الحرب الأهلية نتيجة لاشتداد حدة المعارك بين المتقاتلين منذ مطلع العام 2014، خصوصاً بين طرفي النزاع الرئيسيين وهما الجماعات والمليشيات الإسلاموية المتطرفة من جهة والقوات المتحالفة مع البرلمان الليبي واللواء خليفة حفتر. وقد زاد الوضع السياسي والأمني تعقيداً بعد ما حدث في 25 يونيو/ حزيران 2013، حينما انتخب الإسلاموي «الأمازيغي» نوري علي أبو سهمين رئيساً للمؤتمر الوطني العام الليبي خلفاً لمحمد يوسف المقريف الذي استقال بعد موافقة المؤتمر على قانون العزل السياسي الذي يحظر على كل من تولّى منصباً كبيراً في عهد نظام القذافي العمل في الحكومة. وهو قانون شبيه إلى حد كبير بقانون اجتثاث البعث الذي أقر في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.
ويحظر هذا القانون على كل شخص تولى منصباً في عهد القذافي (1969 – 2011) العمل في أجهزة الدولة الليبية الجديدة. ويقال إن القانون أُقرّ تحت الضغط، حيث طوقت مليشيات مسلحة المؤتمر الوطني العام وطالبت بإقراره. وكان أول ضحايا هذا القانون محمد المقيرف، رئيس المؤتمر الوطني العام السابق والذي عمل سفيراً لليبيا في بداية الثمانينيات.
وحسناً فعل المؤتمر الوطني العام المعترف به دولياً حين قرّر إلغاء هذا القانون الذي أقرّه برلمان 2013 المنتهية ولايته والذي يتخذ من طرابلس مقراً له، فقد صوّت المؤتمر الوطني العام بتاريخ 2 فبراير/ شباط 2015 على قرار يقضي بتعليق العمل بقانون العزل أو الاستبعاد السياسي حتى تبني دستور دائم للبلاد.
إقرأ أيضا لـ "محمد صالح محمد"العدد 4557 - الجمعة 27 فبراير 2015م الموافق 08 جمادى الأولى 1436هـ