نضيّع التفاصيل الكبيرة، حين لا نُعير اهتماماً للتفاصيل التي نظنها صغيرة؛ إذ لا يولد الكبير كبيراً أبداً. كل الأشياء بما فيها الأشياء الكبيرة بدأت صغيرة. إثبات الوجود والدخول في معترك الحياة هو الذي يجعل من القوي قوياً ومن الضعيف ضعيفاً، ومن الصغير كبيراً.
الأمر نفسه ينطبق على الذين لا يريدون أن يكونوا مجرد عابرين إلى هذه الحياة دون أن يشعر بهم أحد، ودون أن يتركوا أثراً كبيراً كي لا يصغروا في ضمائر وعيون الذين شاركوهم المكان وأشياء أخرى. يكبرون بالأثر وما يحققون من إنجاز. يكبرون بالسمو على الصغائر، لا الأشياء الصغيرة والمواقف التي يراها البعض صغيرة. والفرق كبير بين الاثنين.
وأكثر الخسائر أتت وتأتي من احتقار المخاطر والتغافل عنها وتجاهلها. النظر إليها وكأنها غير موجودة: صغيرة. وأكثر الأرباح التي يمكن للإنسان أن يجنيها، وليس بالضرورة أن تكون أموالاً، إنما تأتي وتتحقق بالتراكم. تراكم ما يراه الناس صغيراً ولا يستحق العناء.
كل ذلك يحتاج إلى معرفة قدْر الناس، ومعرفة قدْر الأشياء أيضاً، كما يحتاج إلى استعداد نفسي في التعامل مع كل ذلك. بدون ذلك الاستعداد، والصبر، والسهر على المحاولات، يظل الصغير صغيراً. وحتى الأشياء الصغيرة تظل كذلك ما لم نبادر إلى جعلها كبيرة، وتلك مهمة العقل البشري والإرادة.
كل خسارة يسجلها الإنسان، هي خسارة لرصيده، وخسارة لطاقاته وتبديد لها. خسارة وتبديد بتفويت الفرص التي لا يأخذها على محمل الجد. احتقاراً لنتائجها ومردودها وقيمتها.
كثيرون تعودوا على التهوين من الخسارات. في بعض الأحوال ذلك أمر جيد، يعطي الإنسان دفعة وحافزاً لتكرار المحاولة، وعدم اليأس، وانتظار تدخّل المعجزات، لكن تكرار التهوين منها وتكرار أسباب حصولها، والأخطاء التي أدت إليها، هو ما يقود الإنسان لأن يجعل من نفسه مثار سخرية للعالمين من حوله، وهو أول ما يسخر من نفسه بعدم استيعاب الدرس، والسقوط الذي ينتظره عند كل زاوية وشارع ومدخل. ومن وراء كل ذلك تصغير قيمة ما حوله، وبعض الذين يحيطون به.
لا يخلو الإنسان من ضعف، وهو القوي المتعدد في مواهبه وطاقاته، وجبروته أيضاً. وسط كل ذلك هناك ضعف يكمن فيه، ويحتاجه في كثير من الأحيان كي لا يزداد غروراً وطغياناً، لكن ذلك لا يعني أن يذهب به الغرور حداً ودرجةً لا يرى بسببه قوةً غير قوته، وموهبةً غير موهبته، وقدرةً غير قدرته. وفي ذلك كله، وحتى البعض منه، الحتف كل الحتف.
كم من الفرص تسللت من بين أيدينا بمثل ذلك التهاون والتصغير. التهاون في المحاولة، والفرص. والأخطر، التهاون في الإمكانيات التي وهبها الله لنا؟ ولا يأتي التهاون من الإنسان إلا بفعل تصغير ما هو أمامه. ولن نستطيع ترتيب حياتنا كما يجب، إن لم نلتفت إلى التفاصيل من حولنا، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، لأنها تمنحنا طرقاً وآفاقاً وخيارات تقودنا إلى الأهداف، وتأخذ بأيدينا إلى تحقيق تطلعاتنا، ونحدث فرقاً كبيراً في نمط وأسلوب حياتنا، وحياة الذين يحيون معنا في محيطنا.
وبقليل من التمعن، سنعرف أن الكبار الذين صنعوا الأحداث والمواقف في الدنيا، إنما أصبحوا كباراً، ويكبرون كلما مر الزمن، بقدرتهم على المواءمة وتسخير الأمور الكبيرة والصغيرة، والتعامل معها كموصّلات إلى ما يصبون إليه.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4557 - الجمعة 27 فبراير 2015م الموافق 08 جمادى الأولى 1436هـ