كيف ستكون صورة إيران من الداخل بعد تنصيب محمود أحمدي نجاد في موقع الرئاسة لولاية ثانية؟.
هناك رأي يقول إن إيران ستدخل مرحلة تصحيح وانفتاح على الحريات العامة وإنها ستبدأ بتطوير شبكة الاتصالات التقنية السلكية واللاسلكية مع المحيط والعالم الخارجي. ويرى هذا الفريق أن إيران ستشهد دورة من الانتعاش الفكري والخصوبة في توليد الآليات المرنة التي تسمح بتوسيع دائرة النقد والنقاش وفتح الأسواق على المنتديات والأحزاب والنقابات والهيئات المدنية والصحف والإنترنت ومحطات الإذاعة والمرئيات وغيرها من أنشطة تساعد الناس على الاتصال بالعالم من خلال شبكة من المعلومات ترفع من درجة الوعي والالتزام وغيرها من حاجات إنسانية ومتطلبات لا يمكن إنجاز التقدم العلمي والتكنولوجي من دون توافرها.
هناك رأي مخالف يرى العكس من كل ما ذكر من أمنيات. الرأي المخالف يقول إن إيران ستدخل مرحلة انغلاق على الذات تبدأ خلالها بإقفال شبكات الاتصالات مع المحيط والعالم الخارجي. ويرى هذا الفريق أن إيران ستشهد دورة من الكساد الفكري وتجفيف آليات التقدم ومنع التواصل والنقد والنقاش وتجميد الأسواق ومطاردة المنتديات وملاحقة الأحزاب والنقابات والهيئات المدنية والصحف والإنترنت والهواتف النقالة والجوالة ومحطات الإذاعة والمرئيات وغيرها من وسائط مطلوبة للتعارف والحصول على المعلومات، ما يعني أن البلاد ستنعزل إلى الداخل وتقفل كل الطرق التي تساعد على استكمال إنجاز التقدم العلمي والتكنولوجي.
بين الاحتمال الأول والثاني هناك مسافة زمنية تتطلب إعادة قراءة الحدث الإيراني وتشريح ما حصل في الأسابيع الثلاثة الأخيرة حتى يمكن التوصل إلى ترجيح الاحتمال الأول (الانفتاح) أو الثاني (الانغلاق).
الترجيح مسألة تتصل بالنتيجة. والنتيجة حتى تكون صائبة أو خاطئة لابد أن تعتمد على مقدمة الحدث الذي أدى إلى تلك الاحتجاجات والتداعيات.
المشكلة بدأت قبل يوم الاقتراع في 12 يونيو/ حزيران الماضي. وهي تأسست على اعتراض المتنافسين على انحياز أجهزة السلطة واستخدامها الأدوات والمال العام لمصلحة فريق ضد آخر. واستمرت المشكلة إلى أن أصدر «الحرس الثوري» قبل يومين من التصويت ذاك البيان الرسمي الذي حذر من «ثورة مخملية» واتهم المترشح مير حسين موسوي بأنه يستعد لإطلاق «ثورة خضراء». والمشكلة تفاقمت يوم الاقتراع حين اتهم المتنافسون أجهزة الدولة باستخدام شبكات الإعلام والنقل وتوظيفها لمصلحة طرف مقابل منع المندوبين من الأطراف المتنافسة دخول أقلام الاقتراع والمشاركة في الإشراف على فرز الصناديق. وتطورت المشكلة حين اتهم المتنافسون وزير الداخلية بخلط نتائج الاقتراع وتدويرها إلى نسب مئوية من دون تبيان معالم خريطة طريق التصويت في مراكز الانتخاب. ولم تتوقف المشكلة عند يوم الانتخاب بل تطورت حين خالف وزير الداخلية المادة 27 من الدستور التي تجيز الاحتجاج السلمي والاعتراض الهادئ في الشارع. وانتهى الأمر إلى فوضى والانزلاق نحو المواجهات والعنف وإغلاق الصحف والمحطات والوكالات وقطع الاتصالات الهاتفية وتوقيف الإنترنت وتجميد كل الشبكات الإذاعية والمرئية ما أعطى فرصة للتأويل والتدخل الإعلامي الخارجي لمعرفة حقيقة ما يحصل.
هذه هي الصورة المختصرة التي يتذرع بها المتنافسون في الانتخابات ضد الرئيس المنتخب والمدعوم مباشرة من وزير الداخلية. وخلاصة المشهد أن هذا الفريق يتهم السلطة بالتدخل قبل الانتخابات وخلالها وبعدها لمصلحة طرف ما يضفي على النتيجة علامات استفهام ويرفع من منسوب الشك بصحتها.
إذا كانت هذه هي ذريعة القوى المتنافسة التي فشلت في معركة الانتخابات فإن ما حصل في إيران مجرد ردة فعل معقولة ومشروعة. فالملاحظات التي يطرحها هذا الفريق لا تتجاوز تلك الانتقادات «الفنية» و«التقنية» على أسلوب وزير الداخلية وإدارته السيئة للتنافس الانتخابي على الرئاسة. وبسبب هذه الملاحظات يرجح أن تتوقف الموجة الأولى من الاحتجاجات عند حدها وتبدأ بالتلاشي والتراجع والعودة إلى مربع الهدوء.
ملاحظات الطرف المنافس عادية وبسيطة و«تقنية» و«فنية» تحصل في الكثير من الدول حتى تلك المعروفة بعراقتها الديمقراطية. وعلى هذا الأمر يمكن الاستنتاج بأن الأزمة الإيرانية شارفت على الانتهاء وأنها لن تشهد تطورات ومضاعفات ولن تكون مفتوحة على موجات أخرى من التطرف والتصادم العنيف مادام الموضوع برمته لا يتخطى «تقنيات» الإشراف على الانتخابات والتدخلات «الفنية» التي نظمها وزير الداخلية.
المشكلة تبدأ إذا كانت وجهة نظر السلطة هي الصحيحة في تفسير ما حدث. فالقراءة التي تقدمت بها السلطة للرأي العام وقامت أجهزتها بتوزيعها على السفراء والمؤسسات الإعلامية والمجموعات الصحافية المتفهمة والمتعاونة مخيفة في معلوماتها وإشاراتها ودلالاتها. وفي حال كانت قراءة السلطة صحيحة لما حدث فمعنى ذلك أن إيران دخلت فعلا في أزمة مفتوحة ومتدحرجة وخطيرة في تداعياتها واحتمالاتها.
قراءة السلطة ترفض الإقرار بوجود أخطاء «فنية» و«تقنية» إلا بنسبة لا تتعدى عشرة في المئة بينما ما تبقى فإن النسبة صحيحة مئة في المئة وبالتالي فإن «التزوير» تهمة ملفقة؛ لأن التغيير حصل بسبب نمو ظاهرة الفقر والأمية وتراجع دور المدن لمصلحة الأرياف و«القرى النائية» التي حسمت الفوز لمصلحة مرشح «الفقراء» و«الأرياف» و«القرى النائية» و«الأحياء الهامشية» ضد الفريق الآخر الذي يمثل طهران والمدن والطبقات المتوسطة والهيئات المدنية وطلبة الجامعات والمعاهد العلمية وتلك الفئات التي تدير الاقتصاد وتشرف على الملف النووي وتعمل على تطوير قاعدة الإنتاج والتقنيات وتكنولوجيا الطاقة السلمية.
إذا كانت قراءة السلطة صحيحة ودقيقة في معلوماتها لفهم ما حصل فإنها تكون أسوأ بكثير من تلك الملاحظات «الفنية» و«التقنية» التي أبدتها ببساطة وتواضع أطراف الاعتراض على نتيجة الاقتراع. قراءة السلطة لتبرير الأزمة وشرح مداخلاتها ومنعطفاتها تعني عمليا أن الأزمة الإيرانية مفتوحة على تداعيات وقد تشهد في الفترة المقبلة موجات متتالية من التلاطم الاجتماعي والتضارب في المصالح ليس بين أبناء الثورة وأجنحة الدولة وأطراف الجمهورية الإسلامية، وإنما بين الطبقات (الأغنياء والفقراء) والمناطق (الأرياف ضد المدن) والمدن (الأحياء المهمشة والعاطلة عن العمل ضد أحياء الطبقات المتوسطة والفئات المتعلمة والخبراء في الاقتصاد وتقنيات العلوم والمختبرات) وبين الأطراف والمراكز (المدن والمحافظات) وبين أبناء الحضر وسكان «القرى النائية».
قراءة السلطة للانتخابات كشفت عن أزمة بنيوية تعاني منها الجمهورية الإسلامية وهي في حال تطورت سياسيا ستؤدي إلى انهيار الدولة وتبعثرها إلى مراكز قوى محلية تتصارع على نطاق الوطن الإيراني بين الأغنياء والفقراء والمدن والأرياف وقصبات المحافظات و«القرى النائية» والمراكز الحضرية والأطراف الهامشية والعلماء (الخبراء في العلوم والتقنيات) والمجموعات الأمية والجاهلة التي لا تعرف القراءة والكتابة ولا تميّز بين اسم مير حسين موسوي واسم محمود أحمدي نجاد.
إذا كان فعلا ما قاله السفير الإيراني في المقابلة التي أجرتها معه «الوسط» (راجع عدد الثلثاء الماضي) بشأن خلفيات الانتخابات هو الصحيح أي أن نسبة إقبال القرى النائية فاق الوصف وبلغ 90 في المئة (المترشح محسن رضائي يقول في اعتراضاته إن النسبة تراوحت بين 90 و140 في المئة في الكثير من المناطق والأطراف والهوامش) وهو الأمر الذي ساهم في قلب النتائج وتدويرها تكون الأزمة قد أصبحت كبيرة وبنيوية وتتجاوز حدود تلك الملاحظات «الفنية» و«التقنية» التي أشار إليها المعترضون على النتيجة.
قراءة السلطة لتبرير نتائج الانتخابات اعتمدت فلسفة الفقر ومنطق صراع الطبقات بين الفقراء والميسورين، وصراع المناطق ضد المدن، والأرياف ضد قصبات المحافطات، و«القرى النائية» ضد النقابات وقوى التنوير بينما قراءة الفاشلين في معدل النجاح اعتمدت على حيثيات «تقنية» وبيانات «فنية».
إذا كانت قراءة السلطة هي الصحيحة فمعنى ذلك أن إيران مقبلة على كارثة بنيوية ستشهد في الفترة المقبلة سلسلة صراعات غير متناهية بين فئات المجتمع. وبالتالي فإن الأزمة مفتوحة ومتدحرجة وما حصل أول الغيث والموجة الأولى في سلسلة متتالية من الأمواج.
بناء على هذه القراءة السلطوية فإن احتمال انغلاق إيران وانقلابها على الانفتاح يصبح هو المرجح بشرط أن تكون القراءة صحيحة وعادلة. أما إذا كانت القراءة خاطئة فيمكن القول إن ما حصل موجة عنف تقع بشكل طبيعي في كل الدول ولكنها موجة كانت كافية لفتح باب الصراع على السلطة وأجنحة الدولة.
قراءة قوى الاعتراض هي الأفضل وربما الأصلح لإيران أما قراءة السلطة التي قدمت مجموعة أعذار فهي أقبح في نهاياتها من ذنب المغالطات «الفنية» والأخطاء «التقنية».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2491 - الأربعاء 01 يوليو 2009م الموافق 08 رجب 1430هـ