الاعتقاد أن «الدولة الإسلامية» (داعش) في الطريق إلى الاختفاء أو أنها ستجتاح منطقة الخليج، ليس في مكانه. هناك تهويل وتضخيم، وما حديث وزير الدفاع الأميركي منذ أيام في الكويت، إلا إسهاماً في تهويلٍ لا مكان له.
ولنفترض أن الموصل عادت إلى مكانها الطبيعي مع بغداد، وأن قوات الميليشيا القادمة من بغداد دخلت المدينة بغطاء جوي أميركي ودولي وخليجي، فهل هذا يمنع انفجاراً شبيهاً بذلك الذي أدى إلى سقوط الموصل؟ كيف ستدير القوات التي ستعيد السيطرة على الموصل، منطقة تشعر تجاهها بالخوف، على أسس مذهبية قبل أن تكون سياسية؟
الحرب على الإرهاب التي تتم دعوة كل الدول إليها، لم تقترب بعد من التعامل مع الأسباب الكامنة وراء العنف. فما هو قائمٌ في العراق حالة حرب أهلية، وما التدخل العسكري في حروب أهلية، إلا وسيلة لتعميقها وإطالة أمدها وجعلها أكثر دموية. وهذا ما لا يجب التورّط فيه في العراق وسورية ولا في ليبيا وسيناء واليمن وغيرها. فمن دون إصلاحات وحوارات جادة وتسويات وتصورات جديدة، سيؤدي العنف مقابل العنف إلى مزيد من العنف.
برزت «الدولة الإسلامية» بسبب قمع مطلق للسوريين والعراقيين، وهي تتمسك بالأرض الآن، ولن تتخلى عنها في زمن قريب، كما برزت «الدولة الإسلامية» كوريث لـ «القاعدة» في الصراع الذي ارتبط بالتدخلات العسكرية الغربية. إن محاولة تدمير «الدولة الإسلامية» (على رغم دمويتها)، في ظل غياب أسس لحل المشكلة العراقية والسورية بعدالة، تفسّر عند الكثيرين في الإقليم العربي على أنها انتصار لنظام بشار الأسد وللتمدّد الإيراني في العراق. لهذا يمكن الاستنتاج أن «الدولة الإسلامية» ستنجح في جذب مزيد من المتطوّعين، وذلك بطبيعة الحال ليس حباً بسياساتها الدموية، ولكن خوفاً من نظام الأسد ورفضاً للتدخل الأميركي الغربي وانتصاراً للحاضنة السنية في كل من سورية والعراق.
هذا هو جوهر المشكلة التي ستجعل من تصفية «الدولة الإسلامية» عملاً غير ممكن من دون تصفية الكثير من الميليشيات الشيعية العراقية الشبيهة لها، والتي تقوم بتجاوزات إنسانية وتطهير عرقي لا يختلف عن ذلك الذي يقوم به «داعش».
ويمر قطاع من المسلمين السنّة بما مر به قطاع كبير من المسلمين الشيعة في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته. الصحوة الإسلامية بدأت بنسخة شيعية مع الثورة الإسلامية في إيران وانتصارها المدوّي. فقد نجحت تلك الثورة في تحويل قطاع مهم من الشيعة، من كتلة هلامية موزعة الاهتمامات منضوية تحت لواء قضايا مختلفة، قومية وبعثية وشيوعية ويسارية، نحو التزام ديني وتنظيمي وخط أكثر ارتباطاً بالهوية الشيعية بصفتها هوية جامعة. لكنها نجحت في الوقت نفسه، في تحويل هذه الكتلة نحو رؤى استقلالية في المنظومة الدولية، ما دشّن صداماً مع السياسة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي. بهذا، نجحت ثورة الخميني في إعادة تفسير وتحديد من هو الشيعي ضمن إطار جديد، من دون أن يعني ذلك أن كلّ متدين أو غير متدين من المذهب الجعفري، ارتبط بالمدرسة نفسها. فالأهم أن إيران ونتائج ثورتها، نقلتا الحالة الشيعية إلى فضاء جديد لا يمكن تجاوزه.
وقد تطلب بروز تلك الحالة بزعامة إيران، حالة من العنف شهدتها الثورة الإيرانية نفسها، وشهدتها الحرب الإيرانية - العراقية ومدن مختلفة في العواصم العربية والدولية، كان أبطالها شبان شيعة من أقطار مختلفة. إن عصر «العنف الشيعي» انتشر بقوة في ثمانينيات القرن العشرين، وقد عرف ذلك العصر من خلال تفجيرات وعمليات خطف أفراد وصحافيين وطائرات وهجمات على سفارات أميركية وفرنسية، من الكويت إلى بيروت وجنوب لبنان، ومن أميركا اللاتينية إلى أماكن أخرى.
وقد خاضت الولايات المتحدة حرباً ضد «الإرهاب» في ذلك الزمن، بخاصة بعد تفجير سفاراتها ومقرات لها في بيروت وغيرها، على يد «حزب الله» وتيارات شبيهة. لهذا اعتبرت الولايات المتحدة في تلك الفترة، أن الإرهاب في منطقتنا بنكهته الشيعية، يمثل الخطر الأكبر عليها، وفضّلت بالتالي في ثمانينيات القرن العشرين بناء تحالفات مع «الأنظمة السنّية»، كما تصنّف أحياناً، ومع «المجاهدين» في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي، كما نجد أنها مالت إلى نظام صدام حسين في حربه ضد إيران في فترة 1980 – 1988.
لكن الولايات المتحدة لم تنتبه إلى أن مشكلة الإرهاب والعنف في منطقتنا، ليست مرتبطةً بمذهب محدد أو دين. وكما ذكر غراهام فولر في مقالة له على صفحته في 22 من هذا الشهر. فلو لم يكن هناك إسلام أو دين إسلامي في منطقة الشرق الأوسط، سيكون الصراع نفسه هو ذاته والعنف نفسه قائماً بسبب السياسة الاستعمارية، والتدخلات الخارجية، ودعم ديكتاتوريات تابعة للغرب، والسعي إلى الثروات وصفقات السلاح، وتحديد حدود «سايكس بيكو» وإقامة «إسرائيل» في قلب المنطقة ورعايتها إلى يومنا هذا. فالإسلام ليس المسئول عن الحالة الراهنة، بقدر ما تتحمل السياسات الدولية والأنظمة السياسية كامل المسئولية عن الحالة الراهنة.
وكما هو منطق التاريخ، يأتي العنف للحظات ويسود لزمان، لكن إذا وصلت الظاهرة العنيفة، كما حصل مع ظاهرة العنف الشيعية، إلى حالة من القوة والتأطير والمأسسة والنفوذ، تغيّر كل شيء وساد الهدوء، وذلك لأنها تحوّلت إلى مشروع سياسي أكثر نظامية وقوة ووضوحاً، كما أن بروز «حزب الله» تحوّل إلى رمز للقوة التي يتعطش إليها الشيعة في لبنان (بعد طول تهميش)، كما ويتعطش إلى مثلها مسلمون في كل مكان.
أما الحالة الإسلامية السنّية، وهي الكتلة الأكبر في الإقليم، فهي تعاني من مشاعر الظلم والتهميش، وهي حتى اللحظة لم ترمِ بثقلها ولم يتم إيقاظها من سباتها العميق. الحالة السنّية هي الهوية المطموسة في الشرق الأوسط، والتي غابت تاريخياً تحت إرث الاستعمار والانفتاح، وهزيمة القومية العربية والناصرية، وفشل مشاريع الدول وتكرار الهزائم أمام «إسرائيل». والسنّة في سورية، غالبية تعاني الإقصاء الممنهج، أما في العراق فقد تمحورت تلك الطائفة حول حزب البعث ثم فقدت السلطة برمتها، وهي في دول عربية عدة تمثل تيارات إسلامية وجهادية وعربية قومية في الشارع.
تبدو الهوية السنّية مفككة تبحث عن قوة لا تمتلكها، وهي ضعيفة تبحث عن مكانة لم تحققها حتى اليوم، وتبدو في الوقت نفسه ثورية تبحث عن تمدد، لكنها لم تكتشف طريقة لتحقيق ذلك. هذه الهوية بكل ما يكتنزها من تحيزات ومشكلات وتناقضات، هي هوية قابلة للاشتعال كما حصل مع الهويات الأخرى التي سبقتها. وما أبو بكر البغدادي ومن قبله أبومصعب الزرقاوي وأسامة بن لادن والظواهري وغيرهم من الجهادية الإسلامية، إلا مرحلة من مراحل اشتعالها.
الحالة السنّية وفي قلبها الحالة الثورية كما والدينية والسلفية و«الإخوانية» و«الجهادية» وغيرها، ليست في تراجع، ولن تتراجع لأن نظاماً سياسياً قرّر تصفيتها لحسابات سياسية أو أمنية، بل هي تعيش حالة تمدد، وذلك لأنها تمثل أكثر من حالة عنف وتداخل الديني بالسياسي. إنها تعيش حالة تمدّد بحكم تمثيلها هوية سياسية واجتماعية في طور البناء، أسوة بهويات أخرى في الإقليم سبق لها أن حققت «صحوتها» الخاصة وترتيباتها الناتجة من ذلك. لقد ساهم الوضع السوري الدموي وسياسة النظام في سورية كما الوضع العراقي بشكله النظامي، في إيقاظ أعمق المخاوف في الوسط السنّي.
ولو نظرنا إلى التاريخ، لا يمكن لظاهرة معزولة من ممارسي العنف، أن تستمر عقداً وراء العقد من دون أن تكون في جوهرها طاقة قابلة للاشتعال والاستمرار. في كل ما يقع، على كل المتابعين أن يتعمقوا في مسألة الهوية وصحوة الهويات في إقليمنا. إن الهوية الدينية، بخاصة إذا اختلطت بنسبة كبيرة من التهميش والإهمال والعدوان الخارجي والاستبداد السياسي والإقصاء وركاكة مؤسسات الدول، قابلة للانفجار بطريقة هي أضعاف قدرة الطبقة والشريحة على الانفجار.
لقد عادت الهوية إلى الواجهة، وهي لن تتراجع وتأخذ مكانها الطبيعي من دون حلول سياسية وإنسانية وحوارات جادة. في كتابه القيم «الهويات القاتلة»، أكّد أمين معلوف كيف تتحوّل الهويات في لحظات تاريخية إلى القتل والسفك، وكيف يؤدي إهمالها واضطهادها ومحاولة وأد تاريخها ولغتها وشخصيتها ومكانتها، إلى ذلك. إن إهمال مكانة الهوية في هذا الوضع في جميع البلدان العربية، سيؤدي إلى مزيد من الاشتعال.
الراديكالية العربية في حالة تصاعد، بعضها سيتطرف كما هي حال «الدولة الإسلامية»، وبعضها سيسعى إلى الثورة كحال جيل جديد من الثوريين العرب. أما الإصلاحيون السلميون من حاملي الفكر التجديدي، فهم في السجون أو المنافي الجديدة، وفرصهم تتراجع مرحلياً (انظر أحكام السجن في دول عربية عدة لنشطاء سلميين).
إن غياب مبادرات سياسية قيادية (من الأنظمة السياسية العربية) وتنازلات للشعوب، سيشعل الإقليم كما وسيشعل بصورة أكبر قضايا الهوية. في المرحلة المقبلة، يستمر العنف ويتصاعد.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4556 - الخميس 26 فبراير 2015م الموافق 07 جمادى الأولى 1436هـ
القائمين على الأحزاب الدينية المذهبية هم سبب الفتنة بين السنة والشيعة 1110
الأحزاب المدنية من كل الأطياف هي الحل الصحيح أم التعصب الديني هو سبب الفتنة
مع ظهور الأحزاب الدينية السنية والشيعية بدء التناحر 1100
الدين لله والوطن للجميع هذا ما تبنتهو الدول العريقة في الديمقراطيه
و ماذا عن الدول الدينيّة
و الدول الدينيّة هل تبحث عن تحقيق ذاتها بواسطة الإقناع و الحوار؟
جوهر المشكلة ليست بسبب قمع مطلق للسوريين والعراقيين
فلماذا لم تظهر في بلدان أخرى بيننا أشد قمعا وفتكا ودموية؟.ايران كدول غيرها من الطبيعي انها يهمها مصالحها وتعمل جاهدة لتعزيز مواقعها شئنا ام ابينا،لكن هناك فرق شاسع بين من يفعل ذلك بدعم مقاومتك ومن يقمعك. ماذا فعلنا نحن لتحصين أنفسنا من التأثير الخارجي؟هل احترمنا شعبنا ومكناه من تحقيق احلامه بالحكم الرشيد؟.في العراق وسوريا وغيرها لم يكن هناك شئ اسمه شيعي او سني،فلماذا فجأة بدأ الضرب على هذا الوتر الطائفي؟ داعش هي نتاج خارجي لتقسيم المقسم وتجزئ المجزأ.....لكنهم سيندحرون رغما عنهم.