أعادت الجريمة البشعة التي ارتكبها تنظيم «داعش»، بحق أشقائنا المصريين، وذهب ضحيتها واحد وعشرون فرداً على الأرض الليبية بمدينة سرت، مجدداً وبقوة موضوع الحرب على الإرهاب إلى الواجهة. وأقدمت القوات الجوية المصرية، لأول مرة على ضرب أماكن تواجد قواعد هذا التنظيم بالأراضي الليبية. وجرت مناقشات مكثفة للتطورات الأخيرة، في جامعة الدول العربية، ومجلس الأمن الدولي، وفي هذا الاتجاه اقترحت مصر رفع الحظر الدولي عن تصدير السلاح إلى الحكومة المركزية الليبية، المعترف بها أممياً، لتتمكن من مواجهة عصابات الإرهاب.
من جهة أخرى، نقلت لنا مواقع الخدمة الاجتماعية، وبعض محطات التلفزة الفضائية، صورة مثيرة عن كميات هائلة من الأسلحة، على امتداد كيلومترات عدة، قيل إنها أسقطت جواً من قبل جهة أو جهات مجهولة، بهدف تقديم الإمدادات لتنظيمات «داعش» الإرهابية. وذكرت في هذا السياق، مصادر مقربة من حكومة بغداد، عن أعمال مشابهة، جرت في عدد من المواقع التي تتواجد فيها التنظيمات الإرهابية، على الأرض العراقية .
تعيد هذه الأنباء إلى الذاكرة، ما حدث في عين العرب، بالأراضي السورية، حين أنزلت قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب كميات من الأسلحة في المناطق التي تتواجد فيها عصابات «داعش»، وتكرر ذلك أكثر من مرة، وقيل أن ذلك حصل عن طريق الخطأ.
تطرح هذه الحوادث مزيداً من الشكوك، حول جدية المجتمع الدولي في القضاء على الإرهاب. هل المطلوب من قبل صناع القرار الكبار القضاء النهائي والمبرم على الإرهاب، أم احتواؤه في مناطق محددة، وإطلاق يده للتحرك في مناطق أخرى؟ ولماذا على سبيل المثال، تعشش القاعدة في أرض اليمن لأكثر من عقد ونصف العقد، منذ بات وجودها علنياً، ولا تجري صياغة استراتيجية عملية دولية أو عربية لتطويقها، تمهيداً لطردها نهائياً من اليمن السعيد؟
قضايا كثيرة تصدمنا عند محاولة تفكيك ما جرى وما يجري الآن على الساحة العربية. في ليبيا كان الجميع على علم، حين اندلعت الانتفاضة التي انتهت بسقوط معمر القذافي، بأن قوى المعارضة السياسية الرئيسية، التي تتواجد بكثافة على الأرض، هي قوى تكفيرية، مرتبطة بالقاعدة وأخواتها. ومع ذلك لم يهتم التحالف الدولي الذي واجه نظام القذافي، بما ستؤول إليه الأمور في ليبيا بعد سقوط النظام. وكانت جل المؤشرات تشير إلى أن هذا البلد سوف يتجه نحو الفوضى، وأن حصيلة التغيير ستكون انهيار الدولة وتمزقها إلى ولايات، واشتعال حروب أهلية لا تبقي ولا تذر.
والحال ذلك تكرّر في سورية، بعد عسكرة الانتفاضة، حيث قدمت عصابات الإرهاب، من كل أصقاع الأرض.
وحتى في تونس ومصر، حيث جرى التحول السياسي فيهما بشكل سلمي، لم يسلما من فعل الإرهاب، إن بالتفجيرات أو بالعبوات الناسفة. وعمليات الاغتيال تتصاعد في البلدين الآن أكثر من أي وقت مضى، رغم انتهاء المرحلة الانتقالية واستكمال العملية السياسية في البلدين .
وما يلفت النظر، أنه رغم اختلاف الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلدان، التي طالها ما يعرف بالربيع العربي، فإن احتمالات انهيار الدولة في جميع هذه البلدان تكاد تكون واحدة، رغم الأمل بتجاوز المحنة. فمن كان سيصدق أن دولة عريقة، وعميقة مضى على حضورها التاريخي، أكثر من خمسة آلاف عام، وصمدت عبر العصور، كما هو الحال بأرض الكنانة، تكون عرضة لاحتمالات التدمير، من قبل الإرهاب المدعوم كما أثبتت الوقائع، بقوى خارجية؟ رغم أن الشعب المصري، أكد من خلال تمسكه الملحمي بسلمية انتفاضته، تمسكه بثوابته الوطنية، وحرصه على أمن واستقرار بلاده، وأنه وريث حضارة، امتدت برسوخ في عمق التاريخ.
هناك لهب يستعد للتطاير، إلى مناطق أخرى من الوطن العربي، لم يطلها الإرهاب بشكل قوي من قبل، لعل آخرها ما حدث من عمل شنيع للملازم الطيار معاذ الكساسبة، والذي أثار غضباً واستياء، على الصعيد المحلي والعربي والدولي.
ليس يكفي في مواجهة الإرهاب، أن نطلق ما يقترب من الكرنفال، لإعلان الحرب عليه. وليس يكفي أن نختار منطقةً بعينها، لتكون جبهة مواجهته. إن الانتقائية في المواجهة، فضلاً عن أنها لن تكون قادرة في القضاء على الإرهاب، أو حتى احتوائه في منطقةٍ ما، بل وهنا مكمن الخطورة، سوف تسهم في هروب هذه العصابات إلى مناطق لم تكن مطروقةً من قبل. وهنا تسهم الحرب على الإرهاب بشكلها الحالي، في انتشار الإرهاب وتمدده، بدلاً من التضييق عليه، وإلحاق الهزيمة به.
مطلوب منازلة وطنية وعربية كبرى، وحرب شاملة بحق الإرهاب، تلاحقه في آن واحد في جميع أوكاره، وتكون قادرةً على القضاء عليه قضاءً مبرماً. ولن تكون هذه الحرب مجدية إلا بفرض حصار جوي وبحري وبري، على مناطق إمداداته، وفرض عقوبات على القوى التي تقدم له الدعم والإسناد، والتي تجاهر بتأييده.
إن إطباق الخناق على عصابات الإرهاب، بكل تشعباتها ودحرها في هذا المنعطف الخطر من تاريخ الأمة، يتطلب تحفيز القدرات الذاتية للأمة، وصياغة استراتيجية عملية وعاجلة لتحقيق ذلك. ولن تكون هذه المواجهة مجديةً إلا بتلازمها في عمل آخر، يتصدى للمنطلقات الفكرية والأيديولوجية للإرهاب.
ولن تكون هذه المواجهة ممكنة، في ظل التشظّي في العلاقات العربية - العربية. فحرب عالمية كالتي تشنها عصابات «داعش»، تتطلب مواجهةً من نوعها، من حيث شموليتها وكثافتها. إن ذلك يعني أن تحقيق التضامن العربي، وبعث معاهدة الدفاع العربي المشترك، والتركيز على الأمن القومي العربي الجماعي المشترك، وصياغة استراتيجية عربية، هي شروط لازمة لنجاح هذه المواجهة، وإلحاق الهزيمة بالإرهاب.
إنها لحظة امتحان حقيقي للعرب جميعاً، قيادات وشعوباً، فإما أن يكونوا على مستوى المسئولية، وينتخوا للقضاء على حقبة ظلامية، لم تشهدها المنطقة من قبل، وإلا فإنه الإعصار الشامل ونهاية الحضور العربي .
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4556 - الخميس 26 فبراير 2015م الموافق 07 جمادى الأولى 1436هـ
تمزح
كيف يمكن أن تفرض حصار جوي وبحري علن من خلق ذلك البعبع ...المخرج من هذه الحفرة الكونية لن يتم إلا بتعزيز دور القوى الوطنية الشريفة وتنسيقها السياسي على مستوى الدول العربية لإيجاد حل حقيقي لهذه الحالة المزرية ..مع التحية