تمرّ الأمم والشعوب بمراحل فارقة في تاريخها وباكستان مثل كثير من الدول النامية تواجه هذه المرحلة الآن. لقد قامت باكستان على أساس مفهوم الربط بين الدين والوطنية، وتحويل الدين ليكون أساس الهوية الوطنية لباكستان أرض الأطهار، وسار على ثقافة وفكر المجتمع هذا الرباط الوثيق. ولكن هذا المفهوم واجه ثلاث نكسات. الأولى: عدم حل مشكلة كشمير على مدى ستين عاما، رغم ما خاضته باكستان من حروب، نتيجة التوازنات الدولية والإقليمية والمحلية. الثانية: انفصال باكستان الشرقية وتكوين دولة بنغلاديش مما أظهر أن الدين شيء والوطن شيء آخر رغم التلاحم بينهما. الثالثة: عدم قدرة النظام السياسي على بناء قوة اقتصادية واجتماعية وسياسية ذات صدقية دولية، ونعني بذلك الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، مقارنة بجارته القريبة الهند.
ورغم ما سبق من صعوبات وعقبات فإن باكستان استطاعت أن تحقق إنجازات كبرى ومهمة تحسب لصالح نظامها السياسي وشعبها ونخبها السياسية والفكرية وكوادرها العلمية تدل على تواجد الرؤية الاستراتيجية لدى الدولة والنخب السياسية ومن ذلك نذكر ثلاثة أمور:
الأول: التطور العلمي والتكنولوجي الذي أدى إلى جعل باكستان دولة نووية، فالبرنامج النووي الباكستاني الذي بدأ منذ العام 1974 وتطور بحذر وفي سرية تامة، رغم كل الضغوط والمعوقات، وقد فجر القنبلة النووية وطور الصواريخ المتعددة الأنواع وبذلك ضمن حماية وطنه واستقلاله في منطقة تموج بالمخاطر والتحديات. وهذا إنجاز كبير عجزت الدول العربية عن تحقيقه حتى الآن.
الثاني: حققت باكستان إنجازات اقتصادية وإلى حد ما سياسية في الديمقراطية والتنمية، ولكنها لم تتحقق فيها العملية التراكمية التي تضمن استمرارها، فكان الطريق متقطعا ومتعرجا.
الثالث: أوجد نخبا سياسية ناشطة ومجتمعا مدنيا له حيوية بالغة، خذ على سبيل المثال وضع القضاة والمحامين ونشاطهم من أجل حماية استقلالهم، ومواجهة قاضي القضاة Chief Justice للسلطة السياسية بقوتها، أو السلطة العسكرية، أكثر من مرة، ومع أكثر من حزب سياسي، (سواء مع حزب الشعب بقيادة بنظير بوتو، أو حزب الرابطة الإسلامية بقيادة نواز شريف، أو الأحزاب المتحالفة تحت حكم الجنرال برفيز مشرف).
ولقد استطاعت النخبة السياسية والمجتمع المدني والإعلام الذي يتمتع بحرية نسبية أفضل من نظيره في الدول العربية، أن يثير الرأي العام، ويسقط أكثر من حاكم سواء بالانتخابات أو بحركة المجتمع المدني.
تواجه باكستان في هذه المرحلة أقصى صعوبات في تاريخها حيث صراع القبائل مع النظام السياسي ومع الجيش الذي تحوّل لعنصر في الحركة السياسية الداخلية بصورة أكثر وضوحا، مع عدم إغفال دوره عبر التاريخ الباكستاني، كدرعٍ حامٍ لأمن الدولة، فتحوّل إلى جهاز أمن داخلي. وكذلك صراع القوى الدينية السياسية في باكستان ضد النظام السياسي وهي قوى دينية محافظة ومتشددة مع الإقرار بوجود نخب دينية عقلانية ومستنيرة.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن الدولة في جميع مراحل التاريخ الباكستاني واجهت علاقة الحب والكراهية مع الحليف الرئيس لها، أي الولايات المتحدة. ولقد أعطت باكستان الكثير للدولة العظمى ولكن الأخيرة كانت كثيرة التقلب، فبعد تحقيق أهدافها في كل مرحلة لا تتوانى عن معاقبة باكستان، وفرض عقوبات ضدها (بعد تفجير القنبلة النووية العام 1998) وأيضا قبل ذلك حتى أن أحد وزراء الخارجية الباكستانيين صرح متهكما بأن باكستان أكبر حليف لأميركا تطبق الأخيرة عليه العقوبات، هذا ولعل أخطر شيء الآن هو الاعتداء على سيادة الدولة (الغارات الأميركية من أفغانستان ضد مناطق القبائل)، الأمر الذي أنهك النظام السياسي وأضعف صدقيته أمام شعبه، وأثار الشكوك تجاه الولايات المتحدة. ولكن العلاقة استمرت كعلاقة ضرورة لأنه لا بديل عنها للحفاظ على سيادة الدولة في ظل المعطيات الإقليمية والدولية الراهنة.
ويتردد كثيرا القول بأن باكستان أصبحت من ضمن الدول الفاشلة، أو أنها الرجل المريض في جنوب آسيا وأن مصيرها مثل الدولة العثمانية (الرجل المريض في أوروبا القرن التاسع عشر). وفي تقديري أن الوجود الباكستاني كدولة ثابت الأركان وأتصور العوامل التالية لترسم صورة المستقبل للدولة.
1 - سوف تظل باكستان دولة ذات أهمية استراتيجية دولية لمناطق جنوب ووسط غرب آسيا على وجه الخصوص.
2 - سوف تظل باكستان دولة موحدة لأن قوتها العسكرية النووية ومخاطر تقسيمها ستكون الضمان لاستمرارها كدولة موحدة.
3 - ولكن الأمل هو أن تتحول باكستان إلى دولة ذات صدقية سياسية (الديمقراطية) واقتصادية (التنمية) واجتماعية (مكافحة الفساد).
4 - كما أن الأمل أن تعيش باكستان الفكر المستقبلي وأن تضع جانبا المطالب التي من الواضح عدم إمكان تحقيقها في ظل الظروف والأوضاع الراهنة ولمدة 50 عاما قادمة على الأقل ما لم تحدث معجزة تغر موازين القوى الإقليمية والدولية.
5 - كما أن من الأمور المهمة أن تعالج باكستان مسألة الإسلام السياسي وتتعامل بحزم مع المتاجرين به. فالإسلام يدعو للدولة المدنية وليس للدولة الثيولوجية (الدينية) ولا كهنوت في الإسلام.
6 - ومن الضروري أن تعيد باكستان النظر في سياساتها تجاه دول الجوار في جنوب آسيا بوجه خاص مع الهند.
فإذا تساءلنا عن علاقة الباكستان مع العرب فإنه يمكننا أن نقول بكل ثقة واطمئنان، لقد وقفت باكستان منذ قيامها مع القضايا العربية بوجه عام، وأيدت باكستان قرارات الأمم المتحدة حول فلسطين وتبنتها، ولعبت دورا مهما في عودة مصر لمنظمة المؤتمر الإسلامي أثناء قمة المنظمة في الرباط بالمغرب بعد قطيعة كامب ديفيد، وهذه حقائق ثابتة في السجلات التاريخية ولدى المختصين، وإن كان رجل الشارع لا يعرف عنها الكثير.
- في حين أن العرب لم يفعلوا ما يجب أن يفعلوا تجاه باكستان، كدولة شقيقة كانت لها توقعات كبيرة من أشقائها العرب والمسلمين نتيجة قيامها على مفهوم الهوية الإسلامية. فالتطور السياسي العربي في فترة المد القومي اعتمد أهدافا ومبادئ مختلفة، سواء بفصل الدين عن السلوك السياسي الدولي أو بسياسة عدم الانحياز، وذلك لاختلاف التوجهات والارتباطات الدولية للطرفين.
- وفي مرحلة الانكسار القومي تلاقت بعض السياسات العربية والباكستانية في مواجهة المدّ السوفياتي تحت تأثير القوى الدولية والصراع الدولي. وهذا ترك أثرا سلبيا على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في باكستان وفي الدول العربية المهمة مثل مصر والسعودية، لبروز ظاهرة التطرف والإرهاب الذي تم تفريخه في الباكستان، وإن كانت جذوره وركائزه عربية الأصل.
- المطلوب لمواجهة الوضع الراهن القلق في الباكستان من قبل أشقائها العرب وخصوصا دول الخليج، هو مزيد من التعاون الاقتصادي والثقافي والسياسي في المستقبل، ومد يد المساعدة لباكستان من الدول النفطية الغنية. وفي نفس الوقت مصارحة الحكومة الباكستانية بضرورة الانفتاح على المجتمع المدني والقوى السياسية المعارضة. باختصار من الضروري إدارة الصراع السياسي الداخلي بأسلوب مختلف لضمان حدوث توافق وطني ورؤية وطنية موحدة لصالح الشعب بأسره حتى لا يستمر التقاتل والتشاحن ويؤدي إلى دمار البلاد.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2491 - الأربعاء 01 يوليو 2009م الموافق 08 رجب 1430هـ