على الرغم من مظاهر الحزن والرهبة العميقة، التي عمت الدنمارك وأوروبا، في أعقاب الهجمة الإرهابية الشرسة على المركز الثقافي الدنماركي والكنيس اليهودي في العاصمة كوبنهاجن في 15 فبراير/ شباط 2015 وسقوط ضحايا أبرياء في الحادث، خرج المجتمع الدنماركي عن بكرة أبيه في تظاهرات حاشدة في العاصمة ومختلف مناطق البلاد، مندّدةً بأعمال الإرهاب والتطرف، واصطفت جميع القوى السياسية والحقوقية والدينية جنباً إلى جنب، رافعين شعارات الوحدة الوطنية والإخاء والتسامح ونبذ الإرهاب.
وكان من أبرز هذه الشعارات «الحب أقوى من الكراهية»، و»الضوء أقوى من الظلام»، و»التآخي ينتصر على الكراهية والعنف»، و»تذكر الحب دائماً»، و»لا تدع الكراهية تسود في المجتمع».
كانت تلك التظاهرات الحاشدة، التي شارك فيها آلاف الدنماركيين والمقيمين في البلاد، أول رد فعل حقيقي ضد الإرهاب والهجمة الإرهابية الأخيرة، التي هزّت البلاد على المستوى السياسي والإجتماعي والأمني، وأيضاً أول امتحان حقيقي حول قوة تماسك الجبهة الداخلية، وأول مبادرة مشتركة تتوحد في ظلها، مختلف قوى اليسار واليمين في البلاد، من أجل تعزيز الوحدة الوطنية، والانتصار على الكراهية، ما كان لها أن تلتقي منذ عدة عقود، بسبب كثرة الصراعات والتجاذبات، على مختلف المسائل السياسية والأيدلوجية والمذهبية بين تلك الأطراف.
فجميع الشعارات، التي انطلقت في خضم هذه التظاهرات، المزينة بالشموع والزهور والرياحين، كانت تركز على تقوية روح الوحدة الوطنية والإيمان والخير، ورفض ثقافة العنف واليأس والعجز، حيث لا تنسجم أهداف العنف والإرهاب والتطرف والانتقام والعدوان مع حياة مجتمع متطور يعتمد على مبدأ المساواة والتعايش الإجتماعي والحرية والديمقراطية والسلام.
ويقول عدد من الخبراء بالشأن السياسي والحقوقي في الدنمارك، أنه بعد أن شهدت البلاد أسوأ كارثة أمنية في هذا الوقت، بدأ الناس يتوقون إلى الأمن والسلام الجماعي، الذي يتطلب غريزياً وصول الأفكار المتسامحة والمتآخية، إلى مراحل متطورة ومتقدمة جداً، وهذه هي الرغبة الحقيقية، فإذا لم يستطع المجتمع الدنماركي برمته، أن يتجاوز تلك المحنة الموجعة، فإنه سيكون بكل تأكيد قد خسر معركة الانتصار على الإرهاب والتطرف، التي بدأت تخوضها ضده اليوم بعض القوى الإرهابية المتطرفة.
وفي حديث صحافي قال أستاذ اللاهوت في جامعة آرهوس، سفيند أندز: «لا أعتقد أن القادة السياسيين في البلاد، الذين صدمتهم قسوة الهجمة الوحشية، قد تخلوا عن توجيه رسائل الحب والمودة والمصالحة مع الذات ومع الغير لتجاوز تلك المحنة، فالجميع ظلّ يشعر بأن مثل هذه الرسائل الإنسانية والأخلاقية، يجب أن تبرز بوضوح على السطح، وتبقى وتستمر من أجل تكريس وتعزيز مسيرة الدنمارك الرائدة في مجال الحريات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، وحرية جميع الأديان وحقوق الإنسان، وأن مختلف مظاهر الإرهاب والتطرف، يجب أن لا تؤدي إلى مزيد من الاستقطاب والكراهية».
ومن المناسب جداً إظهار مبدأ الاحترام والرحمة بين مختلف الناس، وأن نجعل في هذا المجال مساحة ورغبة متأصلة في إحلال السلام والوئام والتآخي ونبذ الأحقاد، بين مختلف الطوائف المسيحية واليهودية والإسلامية على حد سواء، لكي تتغلب ثقافة السلم والتسامح والحريات على غيرها من أفكار الحقد والضغائن وإقصاء الآخر ومختلف صنوف التطرف والإرهاب، وفي الرغبة العميقة في التطلع إلى الأمام دائماً. إن ذلك من شأنه أن يكبح كل مشاعر الغضب والأحباط التي ظهرت في أعقاب جريمة القتل بدم بارد العديد من الأبرياء في هذه الحادثة المأساوية.
ويبدو من الرائع جداً أن نقف وقفة تضامن موحدة، لنزع فتيل الفتنة الاجتماعية، التي يتمنى لها البعض أن تستعر بين مختلف الانتماءات في المجتمع، ولكن علينا في الوقت نفسه أن نتكلم بصوت واضح على ما نحن ضده من مخالفات فظيعة لكل القيم الإنسانية والأخلاقية والروحية، حتى لو أن بعض الجماعات في المجتمع الإسلامي، قد لا ترغب في سماع تلك الأصوات. ويمكن العمل مع العقلاء من القوى الإسلامية، التي تشاركنا همومنا وتتعايش معنا بشكل جماعي وصادق، ويمكن أن ننظر بجدية ملفتة في مصير تلك الأعمال الشريرة، التي تظل تبنى على العنف، والتي يمكن أن تواجهنا في كل الأوقات بروح التسامح، ولكن ما يتعين علينا القيام به هو فقط العمل على مكافحة مختلف قضايا الإرهاب وصعود ثقافته المخيفة والمقلقة، والتي يمكن أن تقود إلى الفوضى، ولا تفيد إلا في دفع الناس نحو اليأس وارتكاب الجرائم، التي ما برحت تحرض على ارتكابها القوى والعناصر الإرهابية المتطرفة.
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 4554 - الثلثاء 24 فبراير 2015م الموافق 05 جمادى الأولى 1436هـ