ها نحن نعيش في حقبة تاريخية يقدّر العديد من المحللين والمؤرخين أنها الأسوأ على الأمة العربية، إن لم يكن على امتداد تاريخها الطويل فعلى الأقل في التاريخ المعاصر.
ولئن سارع البعض إلى ربط ما آل إليه الوضع العربيّ الراهن بموجة الثورات وسقوط بعض رموز وأنظمة الحكم العربية، فقد أرجع آخرون ما نحن عليه اليوم إلى أسباب أشد عمقاً وأبعد زمناً.
وأيّاً كانت الأسباب، وعلى الرغم من أهمية معرفتنا بها، فإن الصورة اليوم قاتمة، والوضع العربي جد متأزّم ولم يعد من الممكن، كما كان سابقاً، البحث عن حلول قُطرِية متسرّعة، وإنما صارت الضرورة تقتضي التفكير جدياً في حلول إقليمية إن لم تكن دولية. وفعلاً فقد هبّت القوى العالمية لـ»معالجة» الوضع الراهن... لكن ماذا نلاحظ؟
ما يلفت الانتباه -بادئ ذي بدء- انتشار الخطر الإرهابي انتشار النار في الهشيم؛ إذ لم يعد يكتفي برقعة صغيرة داخل دولة محدّدة، وإنما صار له امتداد جغرافي شرقاً وغرباً، ونفوذ في المكان وعلى العباد بإنزال وإنفاذ أحكام جزائية تجاوزت الجلد في العلن إلى القتل والذبح والحرق، وكأنّ هذه التنظيمات أو المجموعات المسلحة صارت «دولة» داخل الدول العربية يبايع بعض المُغرّر بهم من الشباب العربي والمسلم عموماً قادة هذه التنظيمات على السمع والطاعة، بحثاً عن سراب في الدنيا وجنة موعودة في الآخرة.
كما نلاحظ اعتراف العالم الغربي بالخطر الإرهابي ما جعله يستصدر من مجلس الأمن القرار تلو القرار لمحاربة هذا الخطر في منبته، درءًا لوصوله إلى البلاد الغربية. وقد فاته أن الإرهاب لا وطن له، فقد ضربه في مقتل منذ مطلع القرن ولا يزال إلى اليوم، بل وفي كبرى العواصم الغربية.
لكن من المضحكات المبكيات، أن الولايات المتحدة الأميركية قد شكّلت تحالفاً دولياً، وأرسلت الطائرات تلو الطائرات هنا وهناك، للقضاء على إرهابيي «داعش» في سورية، فكانت الحصيلة تدمير البنية التحتية العربية أكثر من القضاء على الإرهابيين، وهي إلى الآن تتوجس خيفةً من الحرب البرية وتترك المجال مع حلفائها للتنظيم أن يتوسع أكثر فأكثر بعد أن كان القضاء عليه ممكناً في بدايات تشكيله، وهل كان يخفى على وكالة الاستخبارات الأميركية تشكّل هذا التنظيم؟
ولا تبدو الولايات المتحدة الأميركية على عجلة من أمرها في مسألة القضاء على الإرهاب ففي حين يتحدث رئيسها عن ثلاث سنوات على الأقل لتحقيق انتصار على الإرهاب، يتحدث مسئولون آخرون من البيت الأبيض عن عشرين سنة، ما يعني مضاعفة تكاليف القضاء على هذه التنظيمات الإرهابية والفاتورة يدفعها العرب طبعاً.
وفي الوقت الذي يتواصل فيه تجييش الشباب وتدريبهم في هذه المنظمات بل وتمويلهم بأيادٍ عربية وإقليمية، ترى الساسة العرب يكيل بعضهم للبعض الآخر التهم بشأن دعم الإرهاب وتمويله واحتضانه، كما هو السجال الدائر اليوم بين مصر وقطر وتركيا.
أمّا عن عامة الشعب العربي الذي هو في قلب الحدث ويتهدّده الخطر بين الحين والآخر، وخصوصاً في الدول التي عششت فيها هذه المنظمات «الجهادية»، هؤلاء العرب بعضهم يستصرخ ويطلب النجدة، وبعضهم غير قليل يدعم هذا الإرهاب لكونه يستفيد منه مادياً أو سياسياً، فيكونون له بمثابة الحاضنة الاجتماعية ويوفّرون له الدعم اللوجيستي الممكن.
إنّ ما صارت إليه أمتنا العربية اليوم من احتراب مذهبي واقتتال طائفي وصراعات قبلية وعشائرية، ليس وليد موجة الثورات العربية، التي فشل معظمها، ولكن وجدت هذه النعرات في بعض هذه الدول الأرضية المناسبة كما هو الحال في سورية والعراق واليمن وليبيا، وما هذا الاقتتال المذهبي والطائفي بل والقبلي أحياناً، إلا صورةً من تخطيط السياسة الغربية التي وجدت في العقلية العربية المتحجرة الأداة المناسبة لتنفيذ مخططها هذا؛ إذْ لا نزال رغم مرور أكثر من ألف سنة على ظهور الإسلام، نناقش الخلافات بين خلفاء المسلمين الأوائل، وكلما ازدادت الآراء ازدادت معها الأحقاد بل انتقلت عدوى وأحقاد هذه الحروب الكلامية بين أطياف عديدة داخل المذهب الواحد، حيث تنهمر الفتاوى بتكفير هذا وحليّة دم ذاك، وتحريض الجميع على الجميع، ولك في «داعش» و«جبهة النصرة» خير مثال.
إن التجارب العربية الراهنة في الانقسامات مليئة بالعبر، وموازين القوى الداخلية أصبحت أشبه ما تكون بحالة الرمال المتحركة؛ فالمفاجأة خلف الباب والمعادلات الراهنة لا تسمح للمسيطر بالحسم والاستفراد ودوام الحكم لعشرات السنين، فهل من تغيير عميق لدار لقمان يشمل البنى الفكرية والعقلية حتى تنصلح الأحوال؟
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4553 - الإثنين 23 فبراير 2015م الموافق 04 جمادى الأولى 1436هـ
تحريض الجميع على الجميع
لا نزال رغم مرور أكثر من ألف سنة على ظهور الإسلام، نناقش الخلافات بين خلفاء المسلمين الأوائل، وكلما ازدادت الآراء ازدادت معها الأحقاد بل انتقلت عدوى وأحقاد هذه الحروب الكلامية بين أطياف عديدة داخل المذهب الواحد، حيث تنهمر الفتاوى بتكفير هذا وحليّة دم ذاك
أحيانا نشعر بالندم أننا من أبناء هذا العصر. لكن ما باليد حيلة
نحن نعيش في حقبة تاريخية يقدّر العديد من المحللين والمؤرخين أنها الأسوأ على الأمة العربية، إن لم يكن على امتداد تاريخها الطويل فعلى الأقل في التاريخ المعاصر.
دار لقمان
دار لقمان على رمال متحركة كما قلت أستاذ
مشكور
نرجو ذلك
فهل من تغيير عميق لدار لقمان يشمل البنى الفكرية والعقلية حتى تنصلح الأحوال؟