كلمة مأتم تعني: مجتمع الرجال والنساء في الغَمِّ والفَرَح كما جاء في القاموس. هذا تعريف ضروري قبل أن يصبح العلمانيون في غَمٍّ والإسلاميون في فرحٍ من العنوان. أما ما يعنيني من تلك الكلمة كوصف لحال العلمانية في هذا المقال فهو معناها الأول وهو الغَمّ، دون أن يعني أن تجارب الإسلاميين تنصع بياضاً، ففيهم ما ملأ الخافقيْن غماً وهماً.
مأتم العلمانية هذا بدا لي مفتوحاً وأن أنظر لما آل له الصراع الدموي في جنوب السودان. وقد كتبت عن ذلك الحال قبل عام إلاَّ خمسة أيام من الآن، لكن الذي يظهر أن الصورة هناك بدت أكثر قُتْمة وقتاماً عما كنا نعتقد، في بلد كان أساس انفصاله أنه يريد أن يكون علمانياً، فضلاً عن صراعه من أجل أن يكون لا دينياً طيلة ثمانية وعشرين عاماً.
قبل أيام، أعلنت الأمم المتحدة أن مسلحين في جنوب السودان خطفوا أكثر من 89 صبياً لا تتجاوز أعمار بعضهم الـ 13 عاماً «من مدرستهم في ولاية أعالي النيل الغنية بالنفط»، عندما كانوا يؤدون اختبارات مدرسية. هذا الاختطاف يأتي في ظل عمليات قسرية مستمرة لتجنيد الأطفال في الصراع الدائر ما بين الرئيس سيلفا كير ونائبه رياك ماشار.
شهود العيان قالوا لليونسيف بأن الخاطفين حاصروا قرية صغيرة بالقرب من ملكال عاصمة ولاية أعالي النيل، وفتشوا منزلاً منزلاً، ثم أخذوا الصبية بالقوة. حدث ذلك دون أن يتحرك تسعون ألفاً من قاطني القرية المكتظة بالنازحين، الذين هربوا إليها نتيجة الصراع السياسي/ القبلي الدائر بين الرئيس (المنتمي للدينكا) ونائبه (المنتمي للنوير).
الحقيقة أن هذه الدولة الوليدة، التي استقلت في 9 يوليو/ تموز 2011، مثال حي على مأتم العلمانية في أقوى صور المناحة. فلم تمضِ سنتان وأربعة أشهر على استقلاله حتى بدأ أعنف صراع تشهده منطقة وسط أفريقيا، حيث قُتِلَ عشرة آلاف إنسان، وشُرِّد مليون ونصف المليون من السودانيين الجنوبيين في الشتات أو الجوار لا يلوون على شيء.
22 قتيلاً و3300 مشرَّد كل يوم منذ عام وشهرين هو أمر يدعو إلى الحزن أولاً، ثم للتأمل ثانياً؛ كونه يدور في بلد نظامه السياسي يُفتَرض أن يكون علمانياً. والحقيقة أن هذا الادعاء (علمانية النظام) لا طائل من الدفاع عنه، حتى لو ادعى أصحابه أنهم علمانيون.
وكما قال الطبيب والفيلسوف الألماني ألبرت شفايتزر بتهكم في وصفه لتلك الحالات، بأن المرء يُخطئ إذا اعتقد أنه قد «يصبح مسيحياً بمجرد دخوله إلى الكنيسة، فالمرء لا يتحوّل إلى سيارة بمجرد دخوله إلى المرآب» وهو حال أصحاب السياسة في جنوب السودان.
كان على السودانيين الجنوبيين ممن تقلدوا مقود السلطة أن يدركوا جيداً، بأن القبليين من النِّويْريين والدِّينْكَاويين لم يتحولوا إلى علمانيين بمجرد رفعهم لشعار العلمانية؛ لأن قبليتاهما لازالتا تُحرِّكهما على أثير وهَج الثروة والسلطة اللتان كانتا تتشكلان في الوعي السياسي والقبلي بالتوازي مع التنافس اللدود، والتجاور الجغرافي الضارب في التاريخ.
كان عليهم أن يُدركوا بأنهم لم يروا أنفسهم على أنهم متساوون ولا نظراء في السياسة ولا في الوطنية ولا في الامتيازات، بل هم أرقام مختلفة تنظر إلى نفسها على أنها حيِّز والآخر حيِّز، وفي نفس الوقت التصارع على مساحة ذلك الحيِّز وما نملكه والآخرون.
كان عليهم أن يُدركوا أنهم سيتمددون على مَنْ هم أصغر منهم في العِدَّة والعدد، وسيستعبدونهم كونهم توابع ليس لهم حق الإمْرة أو الرفض لما يقوله مَنْ هم أكبر وأقوى منهم. وهو ما حصل في عملية الخطف الأخيرة التي كانت ضد قرية يغلب انتماء سكانها لقبيلة الشيلوك، التي تصغر قبيلتَيْ الدنكا والنوير صاحبتي الهيمنة.
كان عليهم أن يدركوا بأن التعامل «علمانياً» مع مجتمع «قبلي» هو كمن يُمثِّل دوراً سينمائياً لا يمت لشخصيته بصلة، ولا يكرّس واقعاً على الأرض بأيّ صورة من الصور، وبالتالي فهو في جوهره حالة خيالية لا يمكن الاتكاء عليها، أو اعتبارها أرضاً صلبة يمكن البناء فوقها. لذلك، فأي ممارسة عليها تعتبر كمن يريد أن يجلس في الهواء.
ويمكن الأخذ بتجربة تونس خلال حقبة الحبيب بورقيبة مثالاً حياً على علاقة العلمانية مع القبلية، حيث تعامل الرجل مع القبلية كمشكلة حقيقية تواجه العلمانية، وأن الأخيرة لا يمكنها الاستمرار في بلد يعيش على اصطفافات قبلية وتنتظم مصالحه عليها، لذلك فقد كان خياره أولاً هو ضرب القبلية في تونس ثم تطبيق العلمانية.
هذا الأمر يجرنا إلى إشكال آخر، وهو المتعلق باختلاف المفاهيم والمصاديق في التجربة السياسية عنها في التجارب الاجتماعية والسوسيولوجية. حيث تنشأ قراءات فرعية لموضوعات أصلية، إلى الحد الذي يستولي فيه الفرع على الأصل، فيُكيِّفه طبقاً لأبعاده، وليس العكس. وهو أمر غاية في الخطورة، لأنه يُشتت الأسماء والأفعال على معانٍ كثيرة.
وقد صَدَقَ الفيلسوف البارع أبو محمد علي بن حزم الأندلسي، عندما قال: «الأصل في كل بلاء وعماء وتخليط وفساد، اختلاط الأسماء، ووقوع اسم واحد على معانٍ كثيرة، فيُخْبِر المُخبر بذلك الاسم وهو يريد أحد المعاني التي تحته، فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر، فيقع البلاء والإشكال». وهذا هو واقع الحال مع الأسف.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4552 - الأحد 22 فبراير 2015م الموافق 03 جمادى الأولى 1436هـ
لباس العلمانية
ترى أن المشكلة في التستر خلف العلمانية، أو لبس جلدها على جسدٍ وحشي، أو نفسٍ براغماتية.
أخي العزيز، العلمانية ليست لباس الخير والنظام كما يصورونها؛ بل هي لباس وُسِم بالتحضر ليُلبسوه الناس ويَلبسوه وما هو إلا لباس يستر الوجوه ويكشف السوءات؛ لباس يسمح لهم بالنزوح عن دينهم وقيمهم وأعرافهم.
بينما يتركون لباسهم؛ "ولباس التقوى ذلك خير".
مصيبة العلمانية و الديموقراطية في العالم الثالث
في العالم الثالث يتم اخذ المفاهيم و تفصيلها على ثقافتهم الطائفية و القبلية مثل ما حدث مع الديموقراطية و العلمانية و دولة المؤسسات و البرلمان و سيادة القانون .. إلخ .. لا نستطيع ان نقول أن هذه المفاهيم سلبية لأن ابناء العالم الثالث يحاولون التجمل بها .. و لكن الامثلة العملية ليست خيال بل هي موجودة في أرقى الصور في العالم المتقدم الذي يعطي فيه المواطن صوته لأحد المرشحين بناء على برنامجه السياسي فقط و لا علاقة له بطائفته أو قبيلته.
تحياتي أبو عبد الله
شكرا لك
مقال في القلب استاذ محمد . دائما ما استمتع بكاتاباتك الثرية والعلمية وابعثها للعديد من الأصدقاء شكرا لك وللوسط
المشكلة ليست بالمفاهيم ولا المعاني
بل بطرق الاستنباط والتطبيق...هيمنة التخلف والاستعباد والحمرنة لن تستثني احدا سواء كان علمانيا او اسلامويا....التحليل الدقيق السوسيولوجي لنواة الفرد تؤكد ان هناك انفصام تشيزوفريني بين ما يعتنقه من فكر وما يطبق منه على ارض الواقع....فعلا الفرع سوف يكون أمضى حينها من الأصل....مقال جيد.