العدد 4550 - الجمعة 20 فبراير 2015م الموافق 01 جمادى الأولى 1436هـ

فيرغسون من اقتصادات التطهير العرقي إلى التراجع الإمبراطوري

«حرب العالم: نزاعات القرن العشرين وانحدار الغرب»

نيال فيرغسون
نيال فيرغسون

أستاذ منحة لورنس أيه تيش للتاريخ في جامعة هارفارد، وزميل في معهد هوفر في جامعة ستانفورد الأميركية، نيال فيرغسون، وفي كتابه الذي صدر في العام 2006، عن مطبعة بنغوين، وحمل عنوان: «The War of the World: Twentieth Century Conflict and the Descent of the West»، «حرب العالم: نزاعات القرن العشرين وانحدار الغرب»، وفيه تأريخ للدموية التي وَسَمَت القرن الماضي، من دون منازع، مقارنة بجميع القرون التي عرفها التاريخ الإنساني. كأنه رصد وتأريخ لتلك الدموية، وقراءة لمسبباتها والنتائج التي أوصلت العالم اليوم، وهو في الألفية الجديدة، إلى مراحل من التهديد لن يعرف فيها هدوءاً، وسيظل في حال انتباه دائم كمن يتوقع كارثة تداهمه وبمكر بالغ، كما هي طبيعة الذين يقفون وراء تلك الدموية التي تكاد لا تنتهي.

هل تحدَّث بتلك المباشرة في كتابه؟ ليس بالضرورة. المنهج الاستقصائي الذي تتبَّعه يرشِّح ذلك الطرح والنتائج التي توصَّل إليها.

القرن الأكثر دموية

الكتاب بحسب ما قدَّمه الموقع الشهير «أمازون»، بأنه «مدهش في نطاقه وسعة اطلاع كاتبه، وهو أعظم ما أبدعه فيرغسون، ضمن أعماله المشهودة. في الكتاب يقبض فيرغسون على أكثر الأسئلة تحدياً في التاريخ الحديث، من بينها: لماذا كان تاريخ القرن العشرين هو الأكثر دموية حتى الآن؟ لماذا تقدم المواد غير المسبوقة، وتسير جنباً إلى جنب، في شكل متوازٍ ومتزامن مع الحرب الشاملة والإبادة الجماعية؟ سعيه المستمر للحصول على إجابات تقوده إلى مناطق تبدأ من جدران نانجينغ، وصولاً إلى الشواطئ الدموية لنورماندي. من اقتصادات التطهير العرقي إلى سياسات التراجع الإمبراطوري والسقوط. الكتاب هو بمثابة تحفة من مؤرخ عظيم».

هل تقوم بعض اقتصادات الإمبراطوريات على التطهير العرقي؟ في صور من التمييز تطول ذلك المفصل المهم في قيام أي كيان؛ عدا الصورة الأشمل والأكبر (الإمبراطوريات)؛ وإن كان في صوره البدائية؛ لكنها تحرص على الاستئثار والنهب والاستفادة من الموارد، في استبعاد وحرمان الذين من المفترض أن يسيِّر الاقتصاد شئون الأمة/الأمم التي ترزح تحت سطوة ونير تلك الإمبراطوريات.

لا تُصْهَر الإمبراطوريات إلا بالدخول في طرف تلك النزاعات. وفي الدخول نفسه تكمن في كثير من الأحيان، أسباب سقوطها. القوة هي التي تحدِّد الضابط الأخلاقي من عدمه. باستوائها والهيمنة يصبح مثل ذلك الضابط ضرباً من العبث والرخاوة، وتهديداً للمصالح، وإعاقة للتمدُّد الذي عادة ما يكون هو البرنامج الرئيس لمثل تلك الإمبراطوريات.

وفي الاستقرار الفائض للإمبراطوريات، يكمن بعض أسباب سقوطها، حين تترهَّل، وتكتفي بما حققته؛ علاوة على ذلك بروز جهات وأطراف تهديد تستغل مثل ذلك الاسترخاء والترهُّل، فتعمل على إشعال النزاعات، التي تتمدَّد هي الأخرى، فتصرف نظرها نهائياً عن مسألة التطلع إلى خارج حدودها، فيما النار تشتعل في أركانها وداخل حدودها.

بالعودة إلى العام نفسه الذي صدر فيه الكتاب، كتب فيرغسون، في مجلة «فورين بوليسي»، في عدد شهر سبتمبر/أيلول 2006، مقالة مهمة، هي من أصداء وأجواء وأطروحة الكتاب نفسه، وإن جاءت أكثر تركيزاً بتخصيصها للإمبراطوريات في أطوارها التاريخية التي امتدت لقرون وتلك التي لم تتجاوز السنوات، في إسقاط لا يحتاج إلى فطنة كي يُفهم منه أن بيننا اليوم ما هو مرشَّح للخضوع لتلك الأطوار، ولا أحد في منأى عن تلك السنن. مقالته جاءت بعنوان «إمبراطوريات بأجل محدود»، لا ينفصل عن كثير من إصداراته في اشتغاله على موضوعة الإمبراطوريات ومتابعتها من حيث النشأة والسياسات والاقتصادات التي تعتمد عليها، والولاءات؛ وإن بدا هنا في مقاله يشتغل عليها في المئة سنة الماضية، من دون أن ينسى التعريج على الإحالات التاريخية لما سبقها من إمبراطوريات.

يقرِّر فيرغسون في بداية مقاله الآتي: «ليست هنالك إمبراطوريات اليوم، ليس رسمياً على الأقل. لكن ذلك قد يتغيَّر قريباً إذا ما عانقت الولايات المتحدة - أو حتى الصين - قَدَرَهَا الإمبراطوري». وكعادته، لا ينفك فيرغسون عن طرح الأسئلة الصادمة: «كيف يمكنهما تجنُّب مصير ما سبقهما من إمبراطوريات؟».

الدول الوطنية

يرى فيرغسون أنه لم تعد هنالك إمبراطوريات في العالم، وكل ما نشهده اليوم هو وجود ما يزيد على 190 «دولة وطنية». هل العالم مطمئن من أن الإمبراطوريات لا رجعة فيها؟

هذه المرة بعيداً عن صيغة ومكامن الأسئلة التي يحترفها بدقة وعناية شديدتين، تقود إلى الوقوف على ما يُراد تمريره أحياناً، وتثبيته أحياناً أخرى. لا ينفك بين معالجة وأخرى، عن وضع القارئ أمام حقائق متنوعة، تكمن الكثير من الإجابات التي لا يتركها لمساحات من تكهُّن القارئ، وحتى المهتمّ بهذا الشأن، وتأتي هذه المرة ضمن مساحة من مباشرتها: «أشباح الإمبراطوريات الماضية ما فتئت تطارد كوكبنا. ويمكن تفسير النزاعات الإقليمية من إفريقيا الوسطى إلى الشرق الأوسط، ومن أميركا الوسطى إلى الشرق الأقصى، بيسْر - بل حتى بعفوية - وفقاً للخطايا الإمبراطورية الماضية؛ حدود اعتباطية هنا، واستراتيجية فرِّق تسدْ هناك».

إمبراطوريات ليست نتاجاً للقومية

في التقسيمات التي تشكِّل الدول الكبرى، من حيث نسبة مواطنيها، ثمة حقائق يقف عندها فيرغسون، تُوصِلنا إلى استنتاج سنقف عليه في نهاية معالجته لتلك الموضوعة.

هو يشير إلى أن الدول الأكثر أهمية اليوم «هي نتاج إمبراطوري». الأمثلة في هذا الصدد لا تنتهي، ولا يقدِّم في الأمر شيئاً أو يؤخِّره حين يذهب إلى مسح لكل تلك الشواهد الماثلة في عالمنا المعاصر.

يضع القارئ أمام حقائق منسيَّة أو مسكوت عنها «انظر إلى الاتحاد الروسي؛ حيث يشكِّل الروس أقل من 80 في المئة من عدد السكَّان، أو بريطانيا التي تعتبر، بغضِّ النظر عن النوايا والأغراض، إمبراطورية إنجليزية. كما أن إيطاليا وألمانيا المعاصرتين اليوم ليستا نتاجاً للقومية؛ بل للتوسُّع البيدمونتي والبروسي».

في لعبة الذوبان تلك، وفي محاولات فرض الاندماج، تتحدد ملامح الإمبراطورية بثقلها السكَّاني من جهة، وتمدُّدها وتوسُّعها من جهة ثانية، وذلك يحتاج إلى آلة عسكرية غير اعتيادية، وضخامة الموارد، ولامحدوديتها من جهة ثالثة.

على أميركا أن تتعظ من بريطانيا

في كتابه «الإمبراطورية: صعود وزوال النظام العالمي البريطاني ودروس للقوى العالمية»، يأخذ النموذج البريطاني في المعالجة بحقيقة لم يخترعها بالقول، إن الإمبراطورية البريطانية كانت الأكبر في كل التاريخ، أقرب شيء إلى السيطرة على العالم تم تحقيقه في أي وقت مضى.

بحلول عشية الحرب العالمية الثانية، نحو ربع مساحة اليابسة في العالم، كانت في شكل من الأشكال تحت الحكم البريطاني. فيرغسون يرى أن المنتج المديني الذي تحقق للعالم اليوم، له امتداد وَصِلَة بالإمبراطورية البريطانية. انتشار الرأسمالية، ثورة الاتصالات، حتى على مستوى المفاهيم الإنسانية، والمؤسسات البرلمانية الديمقراطية. كل ذلك يمكن إرجاعه إلى التوسُّع الاستثنائي لبريطانيا على مستوى الاقتصاد والسكّان، والثقافة منذ القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.

في الكتاب نفسه يظهر فيرغسون أن قصة الإمبراطورية تحمل الكثير من الدروس والعِبر ليومنا هذا؛ وخصوصاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية لأنها القوة الوحيدة حالياً التي تقف على حافة عصر جديد من القوة الإمبريالية، بحصانة أيضاً من تحقق السيادة الاقتصادية والعسكرية.

الأخطاء بالنسبة إلى الأخيرة لا حصر لها، بل ويعاد إنتاجها في أكثر من بقعة في العالم، وتحت عناوين غائمة، وباتت الألفية الجديدة فرصة في اقتناص موضوع الإرهاب الذي تعرَّضت له الولايات المتحدة في أجلى صور ضرب الكبرياء والكرامة (أحداث 11 سبتمبر 2001)؛ ليكون المدخل إلى مزيد من التدخل في الدول، والهيمنة على خط الموارد ومساراتها والطرق الملاحية المؤدية إليها، وإعادة التموضع، والتوسع في إقامة مزيد من القواعد العسكرية، والأخطر من كل ذلك: إعادة رسم الخرائط بما يتناسب والتوجُّه الأميركي ووضع هذا الكوكب من أقصاه إلى أقصاه تحت السيطرة والنظر والرقابة.

مجلس الأمن:

نادي الإمبراطوريات السابقة

هل يُنهي فيرغسون الجدل؟ هل ينفي بأطروحته تلك وجود إمبراطوريات في عصرنا، على رغم حديثة عن الدولة الوطنية التي يتشكَّل منها العالم اليوم؟ يعود بنا من حيث بدأ ولكن في صيغة أخرى «عالم اليوم هو عالم إمبراطوريات ومستعمرات سابقة، بقدر ما هو عالم دول وطنية، وتتميَّز تلك المؤسسات التي كان يُفترَض بها أن تعيد تنظيم العالم بعد العام 1945 (توقُّف جحيم الحرب العالمية الثانية)، بمنحى إمبراطوري متميِّز. وماذا يشكِّل الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن إن لم يكن نادياً حميمياً عائلياً من الإمبراطوريات السابقة؟».

لا تفوت فيرغسون مفارقة التسميات والعناوين التي كانت مدخلاً للتدخُّل واحتلال دول والسيطرة على بشرها ومواردها. يحضر الشاهد في الإمبراطوريات القديمة، وضمن صيغ الأسئلة التي اعتاد عليها قارئ فيرغسون. «وما هو (التدخُّل الإنساني) إن لم يكن نسخة أكثر صواباً من الناحية السياسية من (رسالة التمدُّن والحضارة) التي حملتْهَا الإمبراطوريات الغربية القديمة؟».

العمر التقريبي للإمبراطوريات

دورة حياة الإمبراطوريات لا تبرح ولا تتجاوز مساحة الافتراض. ضمن النماذج التي تناولها فيرغسون، يلفت إلى أن «عمر الإمبراطوريات الأحدث، أقصر بكثير من سابقاتها القديمة والمعاصرة المبكِّرة». ثمة أسباب دفعت الإمبراطوريات الحديثة إلى تجاوز ما اسماها فيرغسون «التدابير الإدارية العشوائية» التي عرفت بها الإمبراطوريات القديمة، والملفت أكثر أنها نماذج كانت ناجحة! بما في ذلك «المزيج المختلط من القانون الإمبراطوري والمحلي، وإعطاء السلطات لبعض المجموعات المحلية الأصلية، وإغداق المراتب الشرعية عليها».

ويرى فيرغسون أن ثمة «هندسة ذاتية» للسقوط ساهمت في انهيار الدول الإمبراطورية، وخصوصاً تلك التي نهضت بعد الحرب العالمية الأولى. الشواهد قريبة «فرض الألمان واليابانيون، خصوصاً، سلطاتهم على الشعوب الأخرى بشراسة وصلت حد تقويض التعاون معها محلياً، بحيث وضعت أساس مقاومة أهل البلاد لها».

الإمبراطورية الأميركية

تظل الإمبراطورية الأميركية صغيرة السن مقارنة بما سبقها بقاء وامتداداً، ضمن مقاييس تلك الفترة الزمنية، وبحسب المعايير التاريخية أيضاً. ويشير إلى أن توسعها القاري بدأ في القرن التاسع عشر، وكان إمبريالياً. مقابل ذلك يظل التوسع «الأميركي ما وراء البحار، والذي بدأ مع الحرب الإسبانية الأميركية في العام 1898، أكثر صعوبة بكثير». وبإحصاء دول يرى أنه»باستثناء سامووا الأميركية، وغوام، وجزر ماريانا الشمالية، وبورتوريكو، وفيرجين آيلاند، فإن التدخلات الأميركية في الخارج كانت عموماً قصيرة الأمد».

الموت المبكِّر

يضعنا فيرغسون أمام تقسيمة للعمر المتوسط للإمبراطوريات والسلالات بالسنوات، يبدأها بالإمبراطورية الرومانية التي استمرت 829 سنة، تليها إمبراطوريات الشرق الأدنى (469 سنة)، الصينية (384 سنة)، المصرية (365 سنة)، الأوروبية الغربية (354 سنة)، الأوروبية الشرقية (348 سنة)، الفارسية (235 سنة)، الهندية (235 سنة)، وإمبراطوريات القرن (57 سنة).

هنالك أيضاً تقسيمة تتضمن العمر الافتراضي للإمبراطوريات الحديثة المبكِّرة والحديثة بالسنوات، يبدأها بالإمبراطورية العثمانية (1453 - 1922)، ودامت 469 سنة، هابسبورغ (1526 - 1918)، واستمرت 392 سنة، البريطانية (1620 - 1956)، واستمرت 336 سنة، رومانوف (1613 - 1917)، واستمرت 304 سنوات، كينغ (1644 - 1911)، واستمرت 267 سنة، المغول (1526 - 1761)، واستمرت 235 سنة، الصفوية (1501 - 1736)، واستمرت 235 سنة، الأميركية (1989)، وعمرها التقريبي 106 سنوات، البلشفية (1922 - 1991)، واستمرت 69 سنة، اليابانية (1895 - 1944)، واستمرت 49 سنة، النازية (1938 - 1945)، واستمرت 7 سنوات.

العدد 4550 - الجمعة 20 فبراير 2015م الموافق 01 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً