حصلت هذه القصة القصيرة على جائزة القصة القصيرة بمهرجان مشرع بلقصيري بالمغرب في دورته الحادية عشرة، وهي من تأليف علاء الشاوي وهو تلميذ بالثانوية التأهيلية أم البنين بالدار البيضاء
كان صباحاً شتوياً ممطراً، حين سُمع صوت الزوجين العجوزين يتجادلان على طاولة الفطور بعدما نفذ ما تبقى لهما من مال تقاعدهما القليل، وسئما الاقتيات على الحبوب المخصصة لديكهما الرومي. صدى صوتهما هذا كان أقوى من الصمت القابع هناك، واستطاع بجدارة تسليط بعض الأشعة على حياتهما الباردة كما الجو خارجاً...
صرخت العجوز بجنون: لا... لن آكل الحبوب مرة أخر... لن آكل هذه الفضلات بعد اليوم.
أراد الزوج الاحتفاظ بالديك، أما الزوجة فكانت تشتهيه على طبق العشاء، هواجس معدتها التهمت - بشراسة - حنان أنوثتها المتجعدة، هذا يكفي للبرهان، للشهادة على مدى جوعها، ومدى تحمل الزوج الذي فقد كلمته العليا ومكانته كرَبِّ بيت، مكتفياً بالضرب بعكازه على الأرض مبدياً انزعاجه، ليظل قراره باهتاً غير ظاهر مثل شمسٍ خلف سقفِ سحب متكتلة.
في تلك الأثناء، كان الديك الرومي داخل خُمِّهِ، لعل صوت الزوجين أفزعه ليظل منكمشاً جثةً في مكانه، تساءل مٌنتفضاً عن مصدر الضجيج: أهو صوت الرعد؟ لا... إنهما الزوجان! لماذا لم يحضر لي أحدهما الطعام؟
طوال سنين لم يتأخر موعد طعامه، باستثناء المرة التي زار فيها العجوزان طبيب النساء، ليتأكدا - دون نتيجة واضحة - من قدرة الزوجة على الإنجاب. لكن شيء ما يقع هذه المرة، الضجيج... عدم إحضار الطعام... فاعتلته حيرة مبهمة. قفز من مكانه يتنقل داخل خمه بسرعة فوق الحشائش، يولّد عاصفة غبار بحركة جناحيه. يصرخ: أنا جائع! ماذا يحصل؟
حلت فترة الظهيرة في صمت أبدي، الديك الرومي ثائر في خمه، لا أحد يعلم بأمره، ثائر بهدوء،الجو بارد، السماء ارتدت لوناً رمادياً خانقاً، ذلك يرسخ معالم الطقس الرديء، توقف العجوزان عن نقاشهما وارتخيا فوق كرسييهما الهزازين، لم يجزما بعد في أمر الديك، عادا إلى النوم، هواية العجائز المفضلة... أو عملهم الوحيد في الحياة، خدر في النفس، يبدو النوم فوق كرسي متأرجح أمتع شيء في هذا المكان، يغطان في كآبة عميقة، لا يسمع سوى صوت احتكاك الكراسي، حتى الساعة الحائطية المعطلة استسلمت خارج الزمن. للصمت وقع شبحي، يستيقظ أحدهما ما إن يشعر بتوعك في عنقه، ثم يعود إلى النوم، لاشيء يثير الاهتمام...
يبدو أن الديك الرومي قد تعب، مثل المقموع في مكانه، يصدر أنيناً داخلياً موجعاً، أضنته الثورة، لم يصله الطعام ولن يصله، بهدوء تتباين الأشياء أمامه، ربما قرر العجوزان بعد كل تلك السنين التخلي عنه. لن يستطيعا بعد اليوم إعالته، يصعب التكهن بتصرفات العجائز، قفز ثانية بخفة حيوان طائش يرفس كوم القش منقباً عن الحشرات، بضع عناكب التقطها لم تشبع جوعه، يجلس مرهقاً يتمسك بأنفاسه. ازدادت المنطقة الحمراء لحنجرته حُمرة وإشعاعاً، واستمر عرفه المتدلي يرقص بجنون مثل ورقة في مهب الريح.
يجلس ثم يقفز، في دمه تسري صرخات أجداده الذين حاربوا ذئب الغابة قبل عقود، حكاية سمعها وهو داخل البيضة. لا... الثورة لا تقبل هدوءاً أو تراجعاً! يقفز من مكانه: أريد حقي! أريد طعاماً! أين أنتما أيها العجوزان؟ لكنه كان كما الصارخ الأبكم، لا أحد يسمعه داخل أحشاء الرتابة الكريهة... قُمِعَ من تلقاء نفسه. الزوجان نائمان والديك الرومي فقد صوته دون جدوى...
الشمس تسير نحو الغروب. استيقظ الزوجان. اعتمدت الزوجة سياسة احترازية منذ شروق الشمس، لم تطبخ ولو ذرة من الحبوب، ذلك لفرض خيارها، في هذا الجو المدفون لا يسمع غير صوت تضور معدتيهما، الزوج وضع كل همه الطافح فوق المذياع. في ملامحه يرقد حزن عميق كما لو كانت الحياة منذورة للأسى، أما الزوجة فتخيط السترة التي بدأت العمل عليها منذ سنوات، صامدة كالجندي، لا يتكلمان كما لو كانا غريبين عن بعضهما البعض... كما لو التقيا في قطار مجهول الوِجهة... صمت مضطرب، ريح جنائزية...مطر...عزلة...
فجأة أطفأ العجوز المذياع ورفعت الزوجة رأسها تترقب...
قال: إنه مثل ابننا! بعد كل تلك السنوات، تنوين التهامه؟ أتأكلين لحمك؟ ثم انتظر منها ابتسامة أو نصفها ببؤس، إنه مجرد ديك رومي، ليس ابني لم ألده، أنا عاقر، المرة الوحيدة التي سيكون فيها داخل بطني هي حين سأزدرده - قالت الزوجة بنبرة هادئة لا تتبدل أمام شيء -.
كانت تلك محاولة الزوج الأخيرة، فقد كيانه وكل ما بناه طيلة عقود تهدم وتطايرت الأشلاء بين كلمات استعطافه، لم يصدق أن المرأة الكائنة أمامه هي زوجته، وخمن أن كل سنوات صيدها للقوارض قد جعلت منها عجوزاً بقلب جرذ، الجوع حطم كل شيء، الجوع ينتزع الأقنعة.
تجند الديك الرومي حين فقد وابل المطر زخمه، وبدا مستعداً لتنفيذ خطته. وبعزم، قفز من فوق الخردوات فاراً من النافذة بخفة النسر. استعان بجناحيه لتخفيف قوة سقوطه، انساب برشاقة على الأرض المبتلة صوب المنزل، هناك رأى العجوزين اللذين اعتنيا به، كالقاتلين يشحذان السكاكين بينما الماء يغلي. انفرجت أسارير الزوجة أخيراً، حتى الزوج اقتنع بالفكرة مستسلماً، صارا يحيكان أحلامهما حول الديك المزين على الطبق، مثلما رأيا ذلك في برنامج تلفزي للطبخ مع الشيخ موحا. غمغم الزوج: متى تناولنا شيئاً غير الحبوب آخر مرة؟
تساءل الديك: ماذا فعلت لهما؟ دهش العجوزان لما خرجا، ماذا يفعل الديك خارج خمه؟ نظرات متوترة تبادلوها بينهم. العجوز يكبت قلقه كما كبت جوعه، اضطراب داخلي، هدوء غامض، وفجأة استدار الديك مطلقاً ساقيه للرياح صوب الشمس التي لامست سطح الأرض، والعجوزان خلفه يركضان ببطء، يسقطان ثم يعاودان النهوض مستعينان بعكازيهما الخشبيين.
على طاولة العشاء، جلس الاثنان يتناولان طبق الحبوب بمرارة، وجبة حبوب أفضل من لا شيء، حزن لا ساحل له، لا يسمع سوى دوي هطول المطر على سطح المنزل، ملعون هذا المطر... هذه المرة شعرت العجوز أن طبق الحبوب ألذ بكثير من الفضلات...
قال الزوج: قلت لك، لم يعد طفلاً كما أحضرناه، لقد صار مراهقاً، إنها مرحلة عصيبة في حياته.
قالت: لا تقلق، سيعود بعدما تنتهي ثورته. إلى ذلك الحين سنحظى بحصته من الحبوب...
العدد 4550 - الجمعة 20 فبراير 2015م الموافق 01 جمادى الأولى 1436هـ