في الفصل السابق، ناقشنا التأثيرات الثقافية لكل من حضارة سومر وحضارة وادي السند في ثقافة باربار، أو حضارة دلمون، التي نشأت في البحرين. بناء معابد باربار يؤكد على هذه التأثيرات، حيث بنيت معابد باربار على مصادر المياه؛ حيث إن قنوات المياه التحت أرضية تمر من تحت المعبد. يمثل المعبد، والكهنة التي تعمل فيه، كمنطقة تحكم أو بمثابة الحكومة المركزية للمنطقة، فيقوم بتوزيع المياه على الأراضي الزراعية المختلفة (Hojlund 1989).
النموذج ذاته لمعبد باربار تم استنساخه لبناء معبد آخر في الجنوب الغربي لهذا المعبد، إنه المعبد الذي عرف باسم «معبد الدراز»، والذي يرجح أنه بني على قناة مائية تتحكم أيضاً في توزيع الشبكة المائية التحت أرضية؛ حيث يرتبط بهذا المعبد عين تاريخية قديمة هي عين أم السجور. وقد سميت هذه العين بهذا الاسم وذلك لكثرة «السجور» أي القنوات الفرعية التي تخرج منها؛ فالسجر وجمعها سجور تعني اصطلاحاً السواقي المتفرعة من قناة العين الرئيسية وهي أصغر منها.
وهكذا، فقد اعتمدت دلمون على استنساخ الأنظمة السومرية والسندية في الزراعة والتجارة، وأدى ذلك لازدهار المنطقة وحدوث توسع كبير في الاستيطان. واستمر الازدهار في البحرين على مدى سنوات طويلة، أكثر من ألفي عام، ثم حدث التراجع الكبير في التجارة والاستيطان، وحدثت هجرات كبيرة من البحرين، وذلك في الحقبة الساسانية والحقبة الإسلامية المبكرة، وبالتحديد ما بين الأعوام 400 و700م؛ ففي هذه الحقبة هجر موقع قلعة البحرين. وأدت قلة الآثار في هذه الحقبة إلى ترجيح أن البحرين/أوال لم تكن جزءاً من شبكة التجارة البحرية التي أسسها الساسانيون (Larsen 1983, p. 111).
صمود موقع باربار
لم تصمد إلا بعض المواقع في الحقبة ما بين (400 و700م)، والتي يُرجح أنها موانئ البحرين القديمة التي ارتبطت بمواقع الاستيطان في هذه الحقبة، وهي ثلاث مواقع أساسية، الأول في جزيرة المحرق بالقرب من قلعة عراد، حيث اكتشف بئر يحتوي على العديد من قطع الفخار الساساني (Kervran 2005, p. 247)، ويرجح أن يكون هناك ميناء في مكان ما على جزيرة المحرق قريب من هذا الموقع. أما الموقع الثاني فيقع في موقع سار الأثري؛ حيث عثر فيه على مبنى يرجح أنه معبد ساساني (Kervran 2005, p. 247)، وأقرب ساحل لهذا الموقع هو ساحل فاران القديمة. والموقع الثالث يقع على الساحل الشمالي لجزيرة أوال بالقرب من معابد باربار، حيث اكتشف فخار ساساني، بالإضافة إلى تمثال بارثي – ساساني، يعود للقرنين الثالث/الرابع الميلاديين، ورُجح أن يكون هناك معبد ساساني، بالإضافة لقرية تعود لهذه الحقبة في هذا الموقع (Andersen and Kennet 2003, pp. 307 - 313). يذكر أن هذا الساحل أشتهر بكونه أقدم ميناء في البحرين منذ حقبة دلمون. وتشير المعطيات الآثارية والجغرافية إلى أن هذا الساحل كان يمثل الساحل الأساسي لكبرى جزر البحرين في هذه الحقبة.
لا نعلم ما الذي حدث لهذا الموقع الأخير، في معابد باربار، في الحقبة الإسلامية؛ حيث لم يعثر فيه على آثار إسلامية مبكرة. في الواقع، ومن خلال نتائج التنقيب الآثارية، يلاحظ قلة أماكن الاستيطان على كبرى جزر البحرين الكبرى، وذلك في الحقبة الإسلامية وحتى نهاية حقبة الدولة الأموية (661 – 750م). والمناطق التي عثر فيها على آثار تعود لهذه الحقبة هي: جدحفص، وجبلة حبشي وحول مسجد الخميس، وفي أقصى جنوب البرهامة (البجوية قديماً) وشمال مقبرة أبي عنبرة. ومن المرجح أن هذه المناطق كانت تستفيد من ضاحية ساحلية مهمة، هي ساحل مني ومروزان الذي ربما كان أهم موانئ تلك الحقبة. وعلى رغم ذلك، فإننا نرجح وجود استيطان في منطقة معابد باربار في الحقبة الإسلامية المبكرة؛ وذلك لأهمية هذا الساحل والمناطق الزراعية المجاورة له، وربما تؤكد لنا هذا الترجيح تنقيبات آثارية مستقبلية. وما يجعلنا نميل لهذا الترجيح هو وجود استيطان مهم في هذا الموقع وذلك في حقبة الدولة العباسية.
باربار في العصر العباسي
منذ بداية حقبة الدولة العباسية، قرابة منتصف القرن الثمن الميلادي، تغير وضع الاستيطان في البحرين إلى الأفضل، وأفضل الحقب العباسية التي ازدهرت فيها البحرين هي الحقبة التي تلت انتهاء جميع حركات التمرد في البحرين، والتوصل لاتفاق باستقلال البحرين بصورة جزئية، وهي الحقبة ما بين الأعوام 810م و929م، وتشمل هذه الحقبة بروز مدينة سامراء كعاصمة للدولة العباسية (836م - 892م). وأشهر المناطق التي ظهرت أو توسعت في هذه الحقبة هي، مدينة مركزية تحيط بمسجد الخميس، بالإضافة إلى قرى/ مدن أخرى غالبيتها ساحلية تقف في المناطق الآتية: باربار، وسار، وفاران القديمة، وكرزكان، وعالي.
يذكر أنه في الفترة (836م - 892م) حدث توسع للاستيطان في البحرين، فتشير الدراسات الآثارية إلى حدوث توسع في المدينة المركزية المحيطة بمسجد الخميس، وكذلك القرية الإسلامية المبكرة في عالي؛ حيث عثر في هذه المناطق على كم كبير من الفخار السامرائي المزجج (Carter 2005)، (Sasaki et. al. 2011). بل إنه من المرجح أن هذه القرية الأخيرة، التي تقع في عالي، بنيت بطراز يحتوي على تأثيرات سامرائية؛ حيث عثر على أقواس منقوشة وذلك أثناء جرف التل الرملي الذي يغطي تلك القرية (Frifelt 2001, p. 34). وبالتوازي مع ذلك، حدث استيطان في موقع معابد باربار، حيث تم بناء مدينة/قرية في هذا الموقع، وربما تكون هذه أيضاً بنيت على الطراز السامرائي، وعثر فيها على الفخار السامرائي المزجج (Frifelt 2001, p. 16).
يذكر أنه في هذه الحقبة، التي برزت فيها سامراء كعاصمة للدولة العباسية، تم تطوير أنواع مميزة من الفخار في العراق. واعتبرت هذه الخطوة كطفرة نوعية في صناعة الفخار، ومن البديهي أن تعتبر هذه الأنواع من أثمن ما صنعه الخزاف المسلم؛ نتيجة للعمليات المعقدة والمتعددة التي يمر بها إلى أن يكون جاهزاً للبيع والاستعمال (حميد 1985، ج9، ص 316 – 318). هذا، وتشير نتائج التنقيب الآثارية في المواقع التي عثر فيها على فخار سامرائي في البحرين، لوجود فخار محلي الصنع بالتزامن معه. وهذا يعني أن استيراد الفخار السامرائي ليس للحاجة بالدرجة الأولى بل للرفاهية؛ ما جعل المنقبين يرجحون أن هذه المناطق سكنها رجال من طبقات عليا في المجتمع (Sasaki et. al. 2011). وترجح Frifelt، أنه بالإضافة لوجود علاقات تجارية بين البحرين والعراق في هذه الحقبة، ربما كانت هناك هجرة لحرفيين من سامراء، والذين استقروا في البحرين للعمل فيها؛ حيث إن العديد منهم هاجروا للعديد من المناطق المجاورة الأخرى، وعملوا فيها في صناعة الفخار والبناء والنقش والزخرفة (Frifelt 2001, p. 15).
مما سبق نلاحظ أن موقعاً واحداً فقط في باربار، وهو موقع معابد باربار، تعاقبت عليه العديد من الثقافات، بدءاً بثقافة سومر. ولكن هل الفخار السامرائي والحقبة العباسية هي المحطة الأخيرة؟، أم أن هناك أسراراً أخرى لا نعلمها؟. هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الحلقات القادمة.
العدد 4550 - الجمعة 20 فبراير 2015م الموافق 01 جمادى الأولى 1436هـ